جو فاسلر ترجمة: أحمد شافعي -
تحاورت على مدار عام مع قرابة خمسين كاتبا مختلفا لسلسلة ” عن ظهر قلب” [By Heart] الأسبوعية المعنية بتناول المقتطفات الأثيرة والأبيات العزيزة لدى الكتَّاب. أطلعنا كل كاتب على الفقرات التي ساهمت في تشكيله، أو في تغيير حياته، والتي ساعدته على مواصلة ممارساته الإبداعية طوال حياته أو حياتها. كانت مشاركاتهم منتقاةً بعناية، وشديدةَ الشخصية. وعلى الرغم من أنني كنت أبدأ كل مرة بطرح السؤال نفسه على كل واحد فيهم ـ ما السطر العزيز عليك؟ ـ إلا أن أجوبتهم لم تنتظم قط في صيغة واحدة.
وتجتمع مشاركاتهم فإذا بها أشبه بحضور برنامج للكتابة الإبداعية، أنا شخصيا تعلمت منهم الكثير. وإليكم هنا بعض أفضل الفقرات القصار المتضمنة نصائحهم الكتابية على مدار 2013، عام كامل من النصائح الثمينة.
في الأسبوع الماضي نشرنا الحلقة الأولى من هذه المساهمات.
***
عارض “أندريه دوبوس” التخطيط. وفي تحذيره من عقلنة المرء لعمله، أصرَّ على أن الأدب القصصي يولد عند الكف عن محاولة السيطرة عليه من خلال العمل على الوصول إلى نهاية معدة مسبقا.
يقول ريتشارد باوش: لا تفكر، احلم.
ويقول دوبوس:
نولد جميعا ولنا خيال. كل واحد فينا يحصل على خياله. وأعتقد بصدق ـ وبناء على سنين من الكتابة يوميا ـ أن القص الجيد يأتي من حيثما تأتي الأحلام. وأتصور أن الدخول إلى حلم شخص آخر، أي في عالمه الحلمي، يمثل رغبة إنسانية عامة نشترك فيها كلنا. وهذا هو القص. وكأستاذ للكتابة القصصية، لا أقول لطلبتي أكثر من هذا. هذا وحسب.
لقد تعلمت أن الشخصيات سوف تولد بمجرد أن تتوقف أنت عن التدخل.
وإليكم الفارق. ثمة اختلاف كبير بين تأليف شيء وتخيله. أنت تؤلف شيئا حينما تفكر في مشهد، حينما تمنطقه. تفكر “أحتاج أن يحدث كذا فيتسنى حدوث كيت”. وفي ذلك شكل من أشكال السيطرة على المادة لا أراه من الفن. وأحسب، وبصراحة، أنه يفضي إلى افتعال، مهما يكن جميلا. وفي مثل هذه الكتابة لا يمكن أن تخطئ أذنك نبرة الزيف.
كانت هذه هي مشكلتي الأساسية في بدايتي: كنت أحاول أن أقول شيئا. كنت، حينما بدأت أكتب، عميق الوعي بذاتي. كنت أكتب قصصا تقول فكرة، أو تعالج أمرا أصارعه أنا فلسفيا. وعرفت أنه، ولو بالنسبة لي، شارع سد. فهي كتابة من الخارج لا من الداخل.
وحدث في بداياتي الأولى، قبل أن أنشر بالقطع، أن بدأت أعرف أن الشخصيات سوف تحيا فعلا إذا أنت تراجعت وانسحبت. كان أمرا مثيرا، ومخيفا بعض الشيء. إذا سمحت لها أن تفعل ما تريد أن تفعل، وتفكر وتشعر كيفما تشاء أن تفكر وتشعر. أمر جميل، وفيه سحر مثير. وبعد كل هذه السنين، هذه هي النشوة التي أكتب للحصول عليها: نشوة الشعور بأن الأشياء تجري من تلقاء نفسها.
تعلمت إذن بمرور السنوات كيف يكون السقوط الحر إلى ما يجري. وما يجري هو أنك تكتب شيئا أنت بالفعل لا تعرف إن كنت تريد الكتابة عنه. تبدأ أشياء في الوقوع تحت قلمك الرصاص وأنت لا تريدها أن تقع، أو لا تفهمها. ولكن تلك هي اللحظة التي يبدأ فيها قلب العمل في الخفقان.
***
يشرح شيرمن أليكسي كيف أن الكتّاب يبقون أسرى الشيء الذي يعذبهم ـ وذلك الشيء، في حالته، هو نشأته في محمية للهنود الحمر ـ لكنه يؤكد أن الإلهام كامن في سجن طفولتنا. ولذلك فهو يستحثنا أن نستحضر أوجاعنا وعذاباتنا وننتج فنا عظيما.
يشير أليكسي إلى عبارة ترد على لسان شخصية في رواية لأدريان لويس: “آيه يا عم أدريان، إنني حبيس محمية عقلي”.
ويقول أليكسي:
ننزع إلى التردد على السجون. نظل نرجع إليها. ولا ينطبق هذا على هنود المحميات فقط بالطبع. فلي أصدقاء من البيض نشأوا في غاية الراحة، لكنهم يكرهون أسرهم، ومع ذلك أراهم وهم يرجعون إليها في كل كريسماس أو عيد شكر. كل عام يتلاقون مع الأسر حتى فبراير. وأظل أقول لهم “أنتم، على فكرة، لستم مضطرين للذهاب. يمكنكم المجيء إلى بيتي”. فلماذا يقررون التعرض للإهانة والسخافة ممن يفترض أن يمنحوهم الحب؟ ليكون الواحد منهم هناك: في ضاحية عقله، في بلدة عقله الزراعية. في غرفة نوم عقله القديمة.
أعتقد أن كل كاتب واقف في مدخل سجنه. فنصفه فيه، ونصفه خارجه. مجرد فعل الحكي رجوع إلى سجن ما يعذبنا ويبقينا أسرى له، والكتاب يكررون جرائمهم. يقطع الكاتب كل هذه الرحلة وسجنه معه، يعيد زيارته في عقله. راجيا أن يصل إلى نقطة يدرك فيها جمالا في سجنه، أيضا. وربما عند بلوغ هذه النقطة، يكون ثمة جمال أيضا في “إنني حبيس محمية عقلي”. ثم إنه في المحمية حدث لي أنا أن تعلمت حكي الحكايات.
***
قالت آيمي بندر إن أفضل الكتابة أشدها غموضا، وإنها تترك موسيقى اللغة تسوقها، لا الأعراف التقليدية المتعلقة بالحبكة والشخصية ومعرفة إلى أين يمضي كل شيء.
الكتابة التي أميل إلى اعتبارها “جيدة” هي جيدة لأنها غامضة، لا تحدث إلا حينما أحيد عن الطريق، حين أخفف قبضتي قليلا، فإذا بي أندهش. أكثر ما أفرح بلغتي حينما لا أفهمها فهما تاما. حين تدعم الأمل بأن ثمة المزيد للكتابة عنه، أن هناك بابا مفتوحا لارتياد المزيد. عندئذ تصبح الكتابة متعة حقيقية. أشعر أن الأمر كله عبارة عن انتظار نوع من الاكتشاف يحدث على مستوى الجملة، وذلك في مقابل أن يكون بين يديك مصباح مثبت على شخصية. ذلك هو الشيء الذي يحركني منذ الجملة الأولى وحتى الأخيرة.
أعرف أن كتابتي ناجحة حينما أشعر أن هناك شيئا يحوم تحت السطح، في ذلك المكان الشعوري الغامض.
واللغة، في نهاية المطاف، هي الباب إلى الحبكة والشخصية، فكلتاهما مبنيتان على لغة. فلو أنك ظللت تكتب صفحة في اليوم لمدة شهر، ثم تناولت ما كتبت وبحثت عن مواضع اللغة الناجحة، فسوف تبدأ الحبكة والشخصية في الظهور. بالنسبة لي، تظهر الشخصية والحبكة مباشرة من الكلمة، بدلا من أن يكون لدي مصباح مثبت على شخصية أو حدث. فأنا لا أعمل بهذه الطريقة. برغم أنني أعرف كتّابا يعملون بها، أما أنا فلا أستطيع. أقول لنفسي، أوه عندي فكرة عن الشخصية، وحينما أجلس لأكتب، تبدو الفكرة مفروضة، ولا تدوم غير دقيقتين. أجد بوسعي أن أكتب سطرين ثم لا أجد بعدهما ما أقول. بالنسبة لي، الطريقة الوحيدة التي أجد بها ما أقوله هي أن أعمل على مستوى الجملة، وأبقى متشبثة بالجمل التي تمنح إحساسا رهيفا بأن هناك المزيد. يكون معنى ذلك أنني وقعت على شيء خفي أكتب عنه، شيء فيه من المجهول اللاواعي ما يمكن استخراجه. بطريقة ما أستشعر هذا، فيبقيني ويحملني على الاستمرار …
من هذه الألغاز ما يتكشف، لكنها لا تتكشف جميعا. وأحسب أن كل قصيدة جيدة يبقى فيها شيء من الغموض. وكذلك أفضل الكتابة. الكلمات التي تتململ وقد التف بداخلها لغز ما. التي تقيم شكلا يعيش من حوله شيء ما، وتلمح إلماحا إلى كنه ذلك الشيء، لكن دون أن تفضحه وتكشف عنه تمام الكشف. هذا ما أريد أن أفعله في كتابتي: أقدم كلمات تكون بمثابة وعاء لشيء ما، غامض، أكبر منها.
***
تؤمن آيمي تان بقيمة التفاصيل الصغيرة. حكت عن كتابة تتعلق بالصور الفوتوغرافية ـ التي استلهمت منها روايتها الجديدة ـ وأوضحت سر إيثارها الانتقال من نقطة في الصورة إلى نقطة أخرى.
أنا في طرف الدقائق القصصية. لا أستطيع أن أقول لنفسي إن الأمر هكذا مع جميع الناس. التعميمات ليست جزءا من طريقتي في التفكير. تبدأ قصصي من مستوى التفصيلة الميكروسكوبية، مستوى الدقائق التي تتكون منها كل حياة. هذه هي أرضي.
وأنا أكتب قصة، ينبغي عليّ أن أنفتح على جميع الاحتمالات التي يمكن أن تأتي عليها تصرفات الشخصيات وأفكارها. وأفضل طريقة بالنسبة لي هي الكتابة الحرة، كما في مسودات الروايات. تساعدني الكتابة باليد على البقاء منفتحة على جميع الظروف الخاصة، وجميع التفاصيل الصغيرة التي تضيف إلى الحقيقة.
كثير من كتاباتي في بدايتها ـ وفي منتصفها بالذات ـ تؤسس ما تعتقد به الشخصيات وهو تواجه المواقف والمصاعب وتمر بها. سواء وهي تقع في الحب، أو يموت لها عزيز، أو تحسب أنها موشكة على الموت: كيف تكون ردود أفعالها، وما التجارب التي تشكّل ردود أفعالها؟ عليّ أن أنفتح على معتقداتها، مهما يكن الإطار الذي تأتي من خلاله ردود أفعالها تجاه ما تعيش فيه من ظروف. وكما يقول ويتمان “ربما [هذا الطريق] هو الذي لا شيء غيره في البر والبحر”، لكنني لا أحصر نفسي في طريق واحد، بل أسمح لنفسي بدلا من ذلك بالتجوال للاستكشاف في نطاق عريض.
في مسوداتي، يوجد الكثير للغاية من الفوضى. ففي حين أحاول الانفتاح على مختلف الاحتمالات، تهيمن الفوضى. فكيف لي أن أعرف إن كنت أسلك مسارا مثمرا؟ وكيف لي إذا حدث لشخصية شيء ما في حياتها أن أحدد أي التفصيلات سوف يخدمني؟ إنني أخطئ دائما بالانحياز إلى الإكثار من التفاصيل وأنا أقوم بالبحث والكتابة. ثم أتخلى عن خمسة وتسعين في المائة منها. ولكني أحب هذا. هذا جزء من عملية الكتابة عندي. ولا أعتبره مطلقا تضييعا للوقت …
أحاول أن أرى قدر ما أستطيع، بتفاصيل ميكروسكوبية. وعندي تمرين يساعدني على هذا، تمرين الاستعانة بالصور الفوتوغرافية العائلية. أجتاح الصورة بقدر ما أستطيع، نقطة بعد نقطة، أو بيكسل بعد بيكسل. ونحن لا ننظر إلى الصور بهذه الطريقة، بل نلقي نظرة عامة، ونركز أكثر ما نركز على منتصف الصورة. لكنني أبدأ مثلا من زاوية، وأمسح التفاصيل واحدة بعد واحدة. وأغرب ما يحدث أنك تنتهي وقد لاحظت أشياء ما كنت لتلاحظها مطلقا. في بعض الأحيان، أكتشف تفاصيل أساسية، حاسمة، مهملة، برغم ما لها من أهمية بالغة في قصة عائلتي. وهذه العملية استعارة لطريقتي في العمل، فهي نفس الطريقة في النظر الفاحص، عن كثب، إلى الأماكن غير المتوقعة، واستيعاب كل ما يوجد.
***
قدَّم كريج نوفا نصيحة مأخوذة من روبرت جريفز: “لا يوجد شيء اسمه كتابة جيدة، إعادة الكتابة هي الجيدة”. وأوضح كيف إن إدخال تغييرات جذرية ـ كتغيير النوع الأدبي كله، أو النبرة، أو الراوي ـ يساعده على معرفة موضوعه والتقدم إلى المسودة النهائية.
يقول كريج نوفا:
إليكم مثلا، وجهة النظر. لنفترض أنك تكتب مشهدا لرجل وامرأة ينفصلان. وهما يفعلان ذلك أثناء تناولهما للإفطار في شقتهما. ولكن المشهد يفشل. ممل، سطحي.
بتطبيق النظرية المشار إليها في ما سبق، يكون الحل هو تغيير وجهة النظر. بمعنى أنه لو كان الحكي من وجهة نظر الرجل، فبدِّل إلى وجهة نظر المرأة، فإذا لم تفلح، فاحك من وجهة نظر الجار الذي يستمع إليهما من الشقة المجاورة، فإذا لم تفلح اجعل هذا الجار يحكي قصة الانفصال، مثلما يسمعها، لصديقته. وإذا لم تفلح، فاحكها من وجهة نظر لص كان قد دخل الشقة واختبأ في خزانة بالمطبخ بمجرد أن دخل الاثنان وبدأ شجارهما.
يبدو لي أنك مع كل وجهة نظر تضيفها، وكل حكي للقصة، تكتشف شيئا لم تكن تعرفه من قبل. ولو صح هذا في حالة وجهة النظر، فينبغي أن يصح في حالات البنية، واللغة، وجميع عناصر القص.
***
فلنغامر ونفرح.
لا أتكلم عن اللذة. بل الفرحة.
لا أتكلم عن المتعة.
لكن علينا أن نقبل بعناد،
فرحتَنا،
في جحيم هذا العالم
هذا ما يقوله جاك جيلبرت الذي تستشهد به إليزابث جيلبرت.
عارضت إليزابث جيلبرت فكرة أن جذور الفن العظيم تكمن في المعاناة. هي ترى أن الإصرار بعناد على الفرحة يساعدها في صد الكراهية عن نفسها، فتكون أكثر امتلاء، وأكثر إنتاجا.
تقول جيلبرت:
قد تكون الكتابة مسعى دراماتيكيا للغاية، حافلا بالكوارث والفواجع والمشاعر المتقلبة والمحاولات الفاشلة. وقد أصبح طريقي ككاتبة أيسر بكثير بعد أن تعلمت أنه حينما تسوء الأمور، فإن عليّ أن أعتبر أن محاولاتي مثيرة، لا باعثة على الأسى.
والآن، كيف نخرج من هذه الأحجية؟ أمر ظريف أن أكون رأيت بوسعي أن أكتب كتابا ثم إذا بي لا أستطيع، فيكون علي أن آتي بزجاجة خمر فأجهز عليها قبل الحادية عشرة لأفقد الإحساس بهول الأمر.
يمكنكم أن تعتبروا الأمر ممارسة روحية استطعت غرسها في نفسي على مدار السنين. عملت بجهد لإنشاء هذه العلاقة، بحيث لا تكون صراعا فوضويا. أنا لا أقف في وجه كتابتي فأخرج دامية اليدين. لا أصارع ملهمتي. لا أجادل. أحاول أن أتحاشى كراهية الذات، والإحساس بالمنافسة، وكل هذه الأمور التي تَسِم حياة الكتاب وتعكرها . أحاول أن أبقى على إصراري العنيد على البهجة.
وعندنا هذه الفكرة الرومانتيكية الألمانية إلى أقصى حد، القائلة بأنك إذا لم تكن تعاني الألم، وإذا لم يكن الفن الذي تنتجه سببا في الألم، فأنت لست على الطريق الصحيح. وطالما شككت في هذا … أقصد، تأمل اللغة التي نستخدمها في الكلام عن العملية الإبداعية: “افتح شرايينك وانزف”. “اقتل أحبابك” [وتقال بمعنى التخلص من الأجزاء التي يحبها الكاتب في كتابه لكنها لا تخدم الكتاب]. دائما ما تعتريني الرغبة في البكاء حينما أسمع الناس يتكلمون عن مشروع فيقولون: “أعتقد أنني كسرت ظهره أخيرا”. هذه بصدق علاقة معتلة بين الكاتب وكتابه. أتحاول أن تكسر عموده الفقري؟ لا عجب إذن أن يبدو عليك الإجهاد! فأنت حوَّلت الأمر إلى معركة. ولا بد أن يكون لدينا من الخبرة بالعالم ما يجعلنا نعرف أن ما تصارعه يصارعك.
عن ذي أتلانتيك