ثقافة الإصلاح وإصلاح الثقافة

د. حسن مدن -

ثمة تلازم بين الثقافة والإصلاح. لا إصلاح بدون ثقافة، ولا ثقافة تنمو وتتعمق وتؤثر تأثيراً فاعلاً إلا في جو صالح. والإصلاح، في كل الأزمنة والأمكنة، يبدأ بفكرة. والفكرة هي في الأساس ثقافة. ما من حركة إصلاحية في التاريخ وفي الراهن إلا وسبقتها فكرة، إلا وسبقتها ثقافة.


والإصلاح اليوم في عالمنا العربي والإسلامي هو موضوع الساعة. أينما ولينا شطرنا في مشارق بلداننا ومغاربها إلا وسمعنا كلمة السر الجديدة: الإصلاح. ثمة شعور يتنامى ويتسع ويزداد بالحاجة إلى إصلاح أحوالنا بعد أن طال أمد الجمود والركود وتخثر الدماء في شرايين مجتمعاتنا الحائرة, الضائعة لا تكاد تدري نحو أي سبيل هي ذاهبة: هل إلى مستقبل غير واضح المعالم، غامض ومجهول باعث على الخوف والحذر والتردد أم نكوصاً إلى ماضٍ كان مضيئاً ولكننا فقدنا حماسة وأدوات وعقلانية أولئك الذين صنعوه فأضاءوا به الدنيا.

قلت إن الإصلاح هو كلمة السر الجديدة. وعلي، سريعاً، أن أستدرك، فأقول انها جديدة على سبيل المجاز فقط. لأن سؤال الإصلاح في الثقافة العربية سؤال أصيل راسخ، ليس جديداً عليها ولا مفتعل. حسبنا هنا أن نذكر تلك الأسماء المضيئة التي كانت فكرة الإصلاح هاجسها وباعث بحثها ومسعاها: الأمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ورفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وزملائه من أهل لبنان الذين استوطنوا الإسكندرية المصرية مطالع القرن العشرين داعين لفكرة تجديد الثقافة العربية واستنهاضها.

لعل الجديد اليوم أن الإصلاح، بعد أن كان سؤالاً ثقافياً بامتياز غدا اليوم سؤالاً مركباً، لعل البعد السياسي يطغى عليه، حين باتت مجتمعاتنا العربية تحت ضغط ديناميات تحولاتها الداخلية وتحت ضغط ما يطلبه العالم وقواه المتنفذة منها، مطالبة وبإلحاح أن تقدم على تحولات جدية، جذرية. لكن ذلك لن يغير من الأمر الشيء الكثير. فالإصلاح يتطلب ثقافة الإصلاح، والثقافة لن تستقيم شرطاً لهذا الإصلاح ما لم يصر إلى إصلاحها وتجديدها، وإلا فإنها بمعناها ومبناها، إن لم يكونا جاهزين لذلك، ستصبح عقبة وعائقاً بوجه الإصلاح ذاته. وهذا ما نستطيع أن نلحظه، دون كبير عناء، في العديد من بلداننا العربية والإسلامية، حين يؤدي عدم جاهزية الشرط الثقافي، إلى تلكؤ الإصلاح وتردده، ومن ثم إخفاقه.

مرَ قرن بكامله، بل وأكثر، منذ أن أثار رواد النهضة العربية الأسئلة الكبيرة حول سبل الخلاص من واقع التبعية والتخلف الاجتماعي والعلمي، وبلوغ الرقي والتقدم، ورغم ذلك ما زالت هذه الأسئلة، في جوهرها، ماثلة أمام المثقف العربي الحالم بغدٍ، يملك فيه العرب أسباب النهضة والتحرر والتقدم والفعل الحضاري المنعتق.

وما يزيد الأمر تراجيدية هو أن الفشل لم يكن فقط من نصيب المشروع النهضوي العربي الأول على يد رواده الكبار في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، إنما كان هذا الفشل أشبه باللعنة التي لاحقت كل مشروعاتنا النهضوية على مدار قرنٍ بكامله، كائناً ما كان الرداء الفكري الذي ارتدته هذه المشاريع.

هل ترانا ندور في حلقة مفرغة لا فكاك منها سوى بكسرها والخروج من طوقها؟ أما ترانا سنظل أسرى لعنة الفشل هذه، ولن يكتب لنا أن ننجز مشروعنا المؤجل منذ مائة عام أو أكثر؟!

أضف إلى ذلك أن المهام الماثلة أمامنا قد ازدادت تعقيداً وتشابكاً عما كانت عليه في أواخر القرن الماضي، يومها لم تكن الدولة العبرية، قد قامت بعد على شكل مشروع أعاق الحلم العربي عن التحقق لسببين اثنين على الأقل، أولهما دوامة الحروب والاحتلالات والعدوانات والاستيطان الذي شغلنا بمعارك لم تكن في الوارد، والثاني هو أن وجود هذه الدولة أعطى الاستبداد العربي، مجسداً في ممارسات الأنظمة خاصة، ذرائع في تأجيل الاستحقاقات الجوهرية الأخرى وفي مقدمتها استحقاق الإصلاح السياسي ودمقرطة المجتمعات العربية بذريعة أن لا صوت لا يعلو فوق صوت المعركة، فيما لم تكن هناك معركة حقيقية قد خيضت، بحيث إن النظام الرسمي العربي بعد نحو سبعة عقود من قيام إسرائيل بات مدعواً للانخراط في منظومة إقليمية من العلاقات والمصالح تشكل في أحد أركانها الأساسية، إن لم تكن الركن الأساس، أمام اندفاعه النظام الدولي الجديد القائم على الأحادية القطبية، الذي يصمم عالماً على هواه، يريد أن يلحق الجميع إلى ترتيباته طوعاً أو عنوة.

ورغم كثرة التلاوين والأزياء التي ارتدتها المشاريع النهضوية العربية، يمكننا القول إن الجدل بين هذه المشاريع لا يزال، منذ أكثر من قرن مضى، يدور بين ثلاثة اتجاهات رئيسية، ويتركز هذا الجدل بشكل أساسي حول المنهج: منهج الخروج من المأزق الحضاري، ورافعة بناء الغد المنشود.

-هل هو العودة إلى التراث؟ إلى الماضي؟ إلى الأصول والينابيع؟

-هل هو في تبني المشروع الغربي كاملاً، وانطلاقا من القول بأن الغرب هو موطن الحداثة أو من الانبهار بالنهضة العلمية والتكنولوجية والحضارية التي حققها هذا الغرب؟

-أم هو في صياغة مشروع توفيقي يأخذ ما يصلح من التراث وما يصلح من الغرب؟

وعلينا الاعتراف أن أياً من هذه الاتجاهات أو المناهج الثلاثة لم يفلح في إعطاء الإجابة الشافية عن السؤال المؤرق حول سبيل النهضة والتقدم، ولم يشهد المجتمع العربي، بفضل أي منها، تلك النقلة النوعية التي تنقله من حال إلى حال، ولا ينفي هذا القول مظاهر التحديث الهائلة التي شهدها العالم العربي، والتي تتجلى في مظاهر شتى. لكنها على الأرجح مظاهر تحديث تطال الشكل والقشور، ولا تخترق الجوهر ولا تبلغ طبقات الوعي الدنيا.

وإذا كانت الدعوة للعودة إلى الماضي تمثل في رأي مفكر عربي كبير هو فؤاد زكريا غربة في الأزمان، فإن الدعوة إلى التغريب، أو الغربنة، أي الاكتفاء بأخذ مظاهر الحياة الغربية، هي غربة في المكان، إذ إنها تسقط من الحساب الملابسات والظروف الخاصة لتطور الحضارة الغربية في مكانها ووفق تقاليدها الدينية والحضارية، وربما الجغرافية، والتي لا يمكن تكرارها على الواقع العربي أو الإسلامي، الفريق الأول يسقط من الحساب ملابسات الزمان، وهذا الفريق يسقط ملابسات المكان.

كما أن جعل التجربة الغربية نموذجاً يجب الاقتداء به أو مثالاً ناجحاً يمكن اللحاق به يثير مأزقاً من النادر أن يجري الالتفات إليه، فعندما نقول إن علينا اللحاق بالعالم المتقدم، ننسى أنه لو حدث ولحقنا بالفعل ذات يوم بالمستوى الذي هو عليه الغرب اليوم، فإن هذا الغرب سيكون يومها قد بلغ أشواطاً أبعد من الرقي والتقدم العلمي، في عالم يتسم بالديناميكية وسرعة التطور، وسنجد أنفسنا حينذاك أيضاً متخلفين عن المستوى الذي بلغه وهكذا بدون نهاية.

أما المنهج التوفيقي الداعي للجمع بين التراث العربي الإسلامي وبين منجزات الغرب، وهو منهج يضرب بجذوره عميقاً في الفكر العربي الحديث، ويتجلى أيضاً في بعض الممارسات البراجماتية، لكنه في حقيقة الأمر منهج تلفيقي لأنه يعفي نفسه من المهمة الصعبة، فهو يأخذ المنجزات الجاهزة سواء تلك التي خلفها لنا الأسلاف، أم منجزات الغرب فيعقد بينها مصالحة شكلية، مسقطاً إياها من سياقها التاريخي، ومن مهادها الاجتماعية – الاقتصادية والحضارية الملموسة، ويقدمها كما لو كانت مشروعاً أصيلاً وعصرياً في آن، جامعاً للمجد من طرفيه، غير أنه في حقيقة الأمر لا يأخذ من الأصالة سوى اسمها ومن الحداثة سوى قشورها.

إن هذا المنهج هو منهج من لا منهج لهم، ورغم الشعبوية الهائلة التي تحظى بها هذه الدعوة التوفيقية، ورغم المكانة التي تنالها في الخطاب الثقافي – الإعلامي الرسمي العربي، إلا أنها، كسابقيها، لم تؤد بنا إلى مخرج.

ونحسب أن الظروف اليوم تهيئ مناخاً أكثر مواتاة لمشروعٍ قوامه إشاعة ثقافة الإصلاح يستفيد من الكبوات وعوامل الإخفاق التي أوصلت مشاريعنا إلى الفشل بهدف تفادي تكرارها. فلقد تفككت – أو هكذا يجب أن يكون – منظومة من الدوغما ومن النقل الحرفي للتجارب الأخرى، واستنساخها بدون تبصر، والبديل المطلوب هو ذاك الذي لن يقوم بنسخ تجارب الآخرين، كما أنه لن يقوم بنسخ التراث. البديل المطلوب هو الذي سيسعى لإعادة إنتاج الفكر وفق الظروف الحياتية زماناً ومكاناً، فالفكر لا يأتي من فراغ. إنه نتاج ميراث طويل من الأفكار والمنجزات والمشاريع، ونتاج التفاعل مع تيارات العصر. فالأفكار تتناسل وينشئ الفكر فكراً آخر. صحيح أن الفكر المنتج يحمل جينات أصله، ولكنه مع الوقت يكتسب شخصيته المستقلة، كيانه الخاص به، فالتجربة – الممارسة تغني الفكر وتعمق محتواه وتشذبه من الزوائد والأحكام التي لا تزكيها الحياة.

حينما نتأمل هذه المسألة في إطار ذهني مجرد تبدو غاية في السهولة، ولكنها في حقيقة الأمر أكثر تعقيداً، “فموضوع العلم ليس معطى جاهزاً في حقل التجربة المباشرة، بل هو موضوع نظري يبنى في عملية معقدة هي بالضبط عملية إنتاجه المفهومي”.

ولن يتحقق هذا المشروع دون الملموسية في صياغة الفكر، كي لا يبقى مجرد إطار نظري ميت معزول عن واقع حي متجدد ومعقد وعصي على التفسيرات والتأويلات الجاهزة المستحضرة من بيئة أخرى أو زمان آخر.