الناقد والأكاديمي الأردني د. جمال مقابلة لـ شرفات:-
يؤكد الناقد والاكاديمي د. جمال محمد مقابلة، أن الشعر نجح كمفهوم واصطلاح، فيما فشل مصطلح النثر فشلا ذريعا، وبقي محملا بالظلال السلبية، ويرى أن العرب حاولوا إرساء قواعد للنقد الأدبي، ولكن بدون جدوى، وانتهت باللهث وراء الأسلوبية، وأن الرسم والشعر والتمثيل خرج من المعبد، وهي محاولة سؤال الانسان عن سر وجوده. يعمل د. مقابلة أستاذا للنقد الأدبي في الجامعة الهاشمية بالأردن، بدأ مشوراه الأكاديمي في جامعة اليرموك، وتخصص في الأدب والنقد، حيث قدم رسالته الماجستير عن الناقد د. شكري عياد، باعتباره ناقدا تأصيليا، ثم أكمل رسالة الدكتوراه حول “تجليات الاسراء والمعراج في النثر العربي”، وخلال مسيرته الثقافية صدرت له عدة كتب، درست اللحظة الجمالية في النقد الأدبي، شرفات التقاه أثناء مشاركته في الملتقى الثقافي العربي، الذي نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة سوسة، وقدم ورقة نقدية درست الشعر باعتباره فعل الوجود المطلق.
• ورقتك التي ألقيتها في مهرجان “الفن والحرية”، والذي نظمته مؤخرا كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسه، تناولت فيها “الشعر باعتباره فعل الوجود المطلق”، ما هي الخلاصة التي خرجت بها؟
هذه الورقة كتبتها مؤخرا، بعد التخفف من الأبحاث الأكاديمية التي نتقدم فيها إلى الترقية، وتكون مشبعة بالإحالات والمراجع والمصادر، والآن لديَّ تصورات حول مفهوم الشعر والابداع بشكل عام، ولدي أيضا محاولة لقول كلمة النقد، ربما لا تكون كلمة مألوفة، لأني أومن أن النقد الأدبي لابد أن يعود إلى نضارته، بوصفه إنشاء فنيا على الفن، فكتبت هذه الورقة، بوحي من النص على النص، والجانب الفني من باب محاولة استبطان المعنى العميق للشعر.
إن اصطلاح المفهوم العام للشعر ناجح بكل المقاييس، في حين فشل المصطلح الآخر المقابل له، وهو مصطلح النثر، فشل فشلا ذريعا، وبقي محملا بالظلال السلبية، وبالمناسبة أنا أكتب سلسلة مقالات في صحيفة مكة، تحت عنوان “تجليات” تصدر كل يوم ثلاثاء، أحاول فيها أن أضع بعض قواعد النقد الأدبي الأساسية، والتي أراها غائبة عن جمهور القراء العرب، المشكلة أننا لا نمتلك حدا أدنى من الذوق العام، ولا من المعرفة النقدية العلمية، فأنا أزواج بين علمنة النقد، أي جعله علما بمناهج حديثة وواضحة، وهذا ما أخفق فيه العرب منذ بداية النهضة وإلى الآن، لقد حاولوا إرساء قواعد للنقد الأدبي، ولكن بدون أي جدوى، والتي انتهت باللهث وراء الأسلوبية، لتكون هي المخرج من “علمنة النقد”، وإضفاء العلمية على النقد، عدا ذلك لم تستطع أن تفعل شيئا، ثم كان قبلها تراكض نحو “البنيوية”، لتكون قراءة علمية للنصوص، فلم تستطع البنيوية هي الأخرى أن توضح الأبعاد الأدبية في النص الأدبي بصورة كافية، وأعود إلى الشعر تحديدا، لأحلل كيف نجح هذا الاصطلاح، الذي عنى كما قلت في الورقة الإدراك والعلم، وهو أن الشعر: “علم قوم لم يكن لهم علم غيره”، وشَعَرَ من الشعور والاحساس، حيث يكون الانجاب، وإذن فهو فعل ميلاد، والمشاعرة بين الفارس والفارس في المعركة، حين يرمي كل منهما سلاحه، فيكون التعانق الجسدي بينهما، وهو الأمر الذي يؤدي إلى القتل، فصار هذه الفعل دالا على العلم والادراك، وعلى المشاعر والأحاسيس المادية الملموسة، وكذلك الفعل الجنسي، فعل الحياة، وفعل الموت، كل هذا دفعني إلى التفكير، وفي إحساس الشاعر بقول الشعر يستحضر كل هذه المعاني، سواء أكان يعي ذلك أم لا يعي، وصار في تاريخ الثقافة العربية، أن أخذ الشعر معاني الفن عند العرب، والشعر أبو الفنون كما نعلم، لأنه فنٌ بصري وسمعي في آن واحد، زماني مكاني.
إن نجاح هذا الشعر يجعلني أؤكد، أن الشعر الحق يصبح ملموسا ومحسوسا، وليس مجرد أوهام، وبما أن الشعر هو علم وإحساس وإدراك مادي، فكأنما نحن نصنع لوحة تُرى بالعَين، أو نصنع موسيقى تسمع بالأذن، وكل هذه الأشياء هي مادية ملموسة.
• هذا كلام نظري، هل يمكن تحقيقه في الواقع، وكيف؟
يتحقق في الواقع حين نعلم أن الشعر العظيم هو الذي يحس فيه الإنسان، أنه يعبر التعبير الكافي عما يشعر به، خلال رسم صورة ما، بالصوت أو بالصورة، إذن هو فعل وجود، وكثيرا ما قيل عن الشاعر أنه يعبر عن إحباط ومرض وعقدة وتعلق، وعن حالة إنسانية سامية، ويكون الشعر بديلا للحياة إذا كان صادقا، وكثير من الشعراء وصلوا إلى هذه الحالة، القيم أرسيت من خلال الشعر عند العرب، سوءا أكانت قيما إيجابية أم سلبية، بمعنى أنه لن ننظر إلى الشعر باعتباره لعبة، إلا حينما تم التآمر على الشعر بالذات، بفكرة المديح وتفريغ الشعر من محتواه، أما الشعر الحديث، والذي ينظر فيه الشاعر إلى حاله، ويعبر عما في يعتلج في نفسه، وفي الحقيقة نحن نعيش علاقة ملتبسة بين الصورة الواقعية للشيء، والصورة المثالية، لأنه لا يوجد شيء مثالي، إلا وله جذر واقعي، ولا يمكن أن نرى الواقع إلا من خلال تصورات ذهنية ومثالية، من هنا درست قصيدة الشاعرة المصرية شيرين العدوي، والتي تحدث فيها عن إحساسها بالكون، بوصف كتابة القصيدة أشبه بعملية الولادة، وهي كأنثى تحدثت عن هذا الموضوع بخفر الأنثى، كما قلت أنا في سياق ورقتي، وأثبتت في قصيدتها أنها تشعر بشيء، لا يشعر به الناس، فحاولت أن تتحدث، وبينت كيف تتولد القصيدة في ذهنها، أو في إحساسها، أو في عاطفتها، فهي تقول:
أسائل : هل تشعرون؟
بأيدي الغزالة،
حين تختبئ ورد القصيدة
هل تشعرون؟
وهل تحملون إلى آخر الجزر
مد اشتهائي للانهائي
هل تحملون..
وهل تفتحون زنازين روحي
حتى أعانق شمس القصائد
هل تفتحون؟ .. الخ.
وعندما ذهبت إلى نصوص أخرى كتبها الرجل، وجدته يتحدث عن معنى المرأة ومعنى القصيدة، وكأن هناك محاولة لتجسيد القصيدة، على أنها شبيه جدا بالفعل الحميمي، كما في قصيدة الشاعر يوسف عبدالعزيز:
تحت سماء نائية
فاض قميص الشاعر بالموسيقى
وابتلت بالنار بداه
فسجل في دفتره
جسد المرأة
ناي ي ي ي ي ي ي.
لذة النص
• هل يمكن القول هنا إن النص صار بديلا للواقع؟
نعم، ومؤكد فيه، فالنشوة التي تعتري النص، هي قريبة جدا من النشوة التي تعتريه لحظة اللذة الحميمية، وهذا الذي سماه “رولان بارت” لذة النص، وربما أشار بصراحة، إلى تأثره بالعرب في هذا الموضوع، وأنا أؤكد أنه تأثر بالعرب، لأن أهدى أحد كتبه لجمال الدين الذي علمه كثيرا ما معنى الشعر، لذة النص مأخوذة من تراثنا العربي القديم الذي يتحدث عن البكارة، وأبو تمام تحدث عن هذا الموضوع في شعره، حيث يقول: إن اللغة تفترع، هو يفترع القصيدة، ويفترع اللغة، وأنا تحدثت وقلت: من الذي يظن نفسه أنه يفترع الآخر، هل الشاعر الذي يفترع عذرية اللغة، هذا الفعل موجود تماما في الذاكرة اللغوية، عن الانشاء الأدبي وعملية الاقتراع، وكما تمارس اللغة المتعة على الشاعر، أيضا تمارس عليه الوجع، لأنه يريد أن يقول شيئا أحيانا لا تسطيعه اللغة، وأحيانا يكون حبيس هذه اللغة، وفي الأمسية التي نظمت ضمن مهرجان الفن والحرية، استمعنا أيضا إلى قصيدة من الشعر الشعبي الليبي، ينكر أهمية الكلام، وهي للشاعر الليبي محمد علي الدنقلي، صاحب قصيدة “لوغا”، هو فعلا يريد من اللغة ما لا تسطيعه، وهذا يذكرنا بكتاب “عنف اللغة” لجان جاك لوسركل، وفيه يرى أن اللغة تمارس علينا عنفا ما، لأننا نريد أن ندخل أنفسنا في نظامها، وهذه عملية قسرية، وهناك رأي يقول: إن أول درجات اغتراب الإنسان وجوديا، يتم من خلال التعامل مع الآخر، وهو تعامل لا يتم إلا عن طريق اللغة، فاللغة نظام وضعه من قبلك، وأن تريد أن تدخل فيه، ودخولك في هذا النظام هو أول معاناة العيش مع الآخر، أنا نظرت في النصوص، فوجدت أنها تعبر عن معاناة الانسان في أبداع القصيدة، تماما كما تعبر عن معاناته في الاتصال بالآخر.
• هل ينطبق تحليلك هذا على التجربة الشعرية العربية الحديثة، أم هو موصول بالتجربة القديمة، وهل هذه الثيمات موجودة في ثنايا النص القديم، أم مولدة وخاصة بالنص الحديث؟
بلا شك، أنها تنطلق من الشعر العربي القديم والحديث، معا، في عالمنا المعاصر ليس هناك من وضوح، هناك نمط من الشعر، ربما لا يكون مناسبا فيه الإلقاء، الشعر الفلسفي والوجودي، وثمة شعر يسترضي ذائقة الناس الجماهيرية، لكنه قد لا يكون محملا بمعاني عميقة، لذلك فإن نظرية الفن تمحورت حول الشعر العربي بصفة عامة، الشعر القديم مدهش، كشعر طرفة بن العبد، كقوله: “إذا كنت لا تسطيع دفع منيتي .. فدعني أبادرها بما ملكت يدي”، هناك إحساس وجودي طاغي، والشعر كان بديلا حقيقيا عن الوجود، عند كثير من الشعراء.
الإبداع خرج من المعبد
• لكنك قلت: “شعر وجودي مطلق”، كلمة مطلق تذكرني بالسوريالية، هل في النصوص الشعرية العربية لمسة منها؟
أولا يجب أن ندرك أن الشعر حالة إيجاد، والابداع فعل إيجاد، تكتب القصيدة كما تلد المرأة، والرجل يشعر أنه مشارك في عملية الميلاد. الرسم والشعر والتمثيل كلها خرجت من المعبد، وهي محاولة سؤال الانسان عن سر وجوده، سواء الموسيقى، أو النحت، أو الرسم، أو الرقص، أو التمثيل، كلها خرجت من المعبد، بصيغة أو بأخرى، حتى الشعر خرج كذلك، وإلا لماذا وصف القرآن من جملة ما وصف أنه قول شاعر، القرآن نعت بأنه شعر، وهذا لم يأت من فراغ، حيث كان الشاعر كان قريبا من شخصية النبي، وبغض النظر عما يدور من خلاف حول هذا الموضوع، لكن كلنا نعلم، أن الشعراء يتبعهم الغاوون كما ورد في الآية الكريمة، ولي رأي في دلالاتها، وهو أن هذه الآية تعلي من قيمة الشعر، وليست ضد الشعر، الغواية فعل إنساني مكين ورصين، وبالتالي ما كنا لنذنب لولا الغواية، “ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، الذي يهيم هو الفنان، وكلمة الفن من فنَّ يفن بمعنى لوَّن وغير في الشكل، وفنون وأفنان بمعنى أنواع، والتفنن في جوهره هو التنويع، وبالتالي هو القدرة على تقديم الشيء بأشكال مختلفة، قالوا: إذا كان الشعراء في كل وادي يهيمون، فإذن هم بارعون في دخول كل المسالك والشعاب، وإذا هذا وصف إطرائي لهم، ووصف حقيقي، وإذا كان الشعر منحة أو ابتلاء من الله فهو قدر، لذلك فالشعراء يتبعهم الغاوون، لأنهم: يقولون ما لا يفعلون، ويظن الشاعر أنه يقول الفعل، وهذا ما كتبه، أنه قال فغنى وأنشد، والغناء سر الوجود، على رأي جبران.
أسطورة الفنان
• هل ثمة أسماء أخرى تتوازى مع مفهومك النقدي هذا؟
نعم، هناك نصوص شعرية كثيرة تحمل هذا المعنى، لأدونيس ومحمود درويش، وسميح القاسم، وأحمد الشهاوي، وزهير أبو شايب، وشعراء كثر، إذ الشعر حالة ولادة، وتعبير حقيقي عن الفعل والوجود، يؤمن به كثير من الشعراء، الآن القول يصل عند الشاعر حد الايمان به، أن يجعل له تصالحا مع الكون، دعني أتحدث عن هذه القضية بنوع من التفصيل، إن كل قصيدة هي محاولة لكسر حالة العزلة التي يعيشها الشاعر، أن يصنع نصا يظن أنه به سيحل مشكلة الوجود، مشكلة وجوده على الأقل، ووعيه وفهمه في هذه اللحظة، بعد أن يقول ما قال، يكتشف أنه لم يعبِّر عما كان يجول في خاطره، فيحاول من جديد بالوعي الجديد، أن يأتي بنص يستوعب ما لديه، وهذا ما سماه د. شكري عياد أسطورة الفنان، كل فنان مع الزمن يضع لنفسه أسطورة، يحكي أن كل كاتب له أسطورة، وهي الفكرة التي يكونها الكاتب عن الوجود وعن العالم، مقابل أن يعبر عنها، المقصود أن يعتمل في نفس الشاعر شيء، ويحاول أن يعبر عن ذاته فيصنع لنفسه وبمخيلته أسطورة، هذه الأسطورة تقول في قضية معينة، سأصل فيها إلى شيء، فتقدم النص، بعد أن تكتشف أن النص لم يقف بكل ما لديه، تذهب إلى نص جديد، والإنسان دائما ما يبحث عن أسطورته، ولا تكتمل أسطورته إلا بوفاته، كي يعبر عن خياله التي هي أسطورته، الأسطورة هي كل عمل فني، هي تلوينات لقضية واحدة عند الانسان، من هنا كان مهمة الفن بأشكاله المختلفة، تعليمنا التعبير عن الشيء الواحد بطرائق مختلفة، الوجود له صيغة، ولكن التعبير عنه له من كثير من الصيغ التي لا تنتهي، الفن يكثف الواقع، ويجعل له صورا كثيرا مختلفة، و”هيجل” له قول مشهور في هذا الجانب: الإنسان في مقاربته للوجود لديه ثلاثة أساليب، الدين يمنحه التأمل، والفلسفة تمنحه الفهم، والفن يمنحه المعرفة، والمعرفة والخبرة نأخذها من الفنون، وهي تعطينا قدرة لا نهاية في التعبير عن الوجود.
لذلك في قول “شيلر”، الشاعر والفيلسوف الألماني: بائس صاحب المفاهيم، لكن السعيد هو من يرى العالم لا نهائيا، الفنان دائما ما يرى العالم بعيون مختلفة، إن كل قصيدة لها تجربة، وقد تكون تجربة واحدة بطرق عديدة، الفيلسوف يعطينا تأمل في الوجود، مثلما الفن يمنح المعرفة.
• محاولتك للخروج الحر عن النقد الأكاديمي، وترطيبك للغة الأكاديمية، بمنهج نقدي مغاير، ألا يتعارض ذلك مع كونك أكاديميا ملتزما؟
هذا نزوع فردي وشخصي أحيانا، النقد الفرنسي مشهور بهذه الأمر، رولان بارت، نموذج معروف، ونزوع الانسان الشخصي للتعبير عن جانب مكبوت يعتبر شيئا مقبولا، وخصوصا في حمى النقد، التي أغرقنا فيها بالرسومات والاشكال والتحليلات العلمية الصارمة، بنيويا وأسلوبيا أو تحليل للخطاب، أحس أن هناك نفور منه عند العامة، فلذلك أحاول ان أجرب هذه التجربة.
النقد تعليل للذوق
• هل النقد يقف في ظل النص أم هو إبداع في إبداع؟
النقد تعليل للذوق، ومعناه بيان العلة في التحسين والتقبيح، فإذا أعجبك الشعر، رجاء قل لنا ماذا أعجبك فيه، وإذا لم يعجبك فقل لنا: لماذا لم يعجبك، إذن عليك أن تعلل ذوقك، ثمة وهم لدى الناس أن الذوق فردي، يشتبك كثيرا مع الذوق العام، وبما أن الذوق العام قابل لأن يُدَافع عنه بالتعليل، فإذن هو كما يقول شكري عياد: معرفة تصح لدى الغير، لكن يجب أن نفهم تماما أن النقد كان وما زال وسيبقى، في منطقة وسطى بين التقييم والتفسير، بين الأحكام العام والجزئية، وبين الفن والعلم، لا يجوز أن يكون النقد فنا خالصا، ولا علما خالصا، إنه بين العلم والفن، وبين الأحكام العامة والخاصة، مثلما هو بين التفسير والتقييم، لأن البنية أوهمتنا أنه لا يوجد تقييم، نحن نفسِّر فقط، ولكن إذا فسَّرنا دون أن نقيِّم فلا فائدة، وإذا أتينا إلى التقييم مباشرة نفقد التعليل، النقد تعليل للذوق، ويجب أن يبقى ضمن هذه الثنائية.
وأقول بكل صراحة: أنا لست ناقدا، نحن في حقل الدراسات الأدبية والجامعات، السَّواد الأعظم منا معلمون، أو أساتذة في الجامعة، نحن أكاديميون، ومهمتنا الأولى هي أن نعلِّم، النقد الحقيقي بوصفه علما أو فنا أو ابداعا، يحتاج إلى جذر فلسفي يستمد منه الإنسان، وبيئة ما لتصنع مدارس نقدية أو نقادا، ولعل هذا غير متوفر في عالمنا العربي، فكل ما وجدنا محاولات لا أكثر، وأعظم القامات النقدية العربية للأسف الشديد ستبقى حالات فردية، لم تستطع أن تكوِّن مدارس، ولم نستطع أن نقرأها قراءة، على أنها تقع في سياقات قابلة لأن تنظَّم، حالة النقد العربي يرثى لها، منذ مطلع القرن العشرين وإلى الآن، هناك نتاج محاولات نقدية.
• مع أن العرب ومنذ قديم الزمان اشتغلوا بالنقد، والأسماء في هذا الجانب كثيرة، ماذا عن نظرية النقدية القديمة لدى العرب؟
النظرية العربية القديمة لها ما لها، وعليها ما عليها، تطورت حتى وصلت إلى شكل من أشكال البلاغة، النقد والبلاغة كانا مشتبكين، وكان ثمة تطور سار فيه النقد القديم، بين تأثر بالدراسات اليونانية القديمة، أو النقد العربي الخاص، تياران وجدا ولكن للأسف انقطعا منذ القرن السابع، هناك حالة موات، مع أنه كان مزدهرا، في غضون القرن الرابع الهجري، لكن لا نستطيع أن نجعل من النقد العربي القديم، نظرية.
صراع مع الذات
• التراث، هل يمثل ثقلا وعبئا على الناقد، وعلى النظرية النقدية الحديثة؟
نحن نشعر بثقل التراث، لأننا لم ننجز دراسة دقيقة له، ولا استطعنا أن نحجِّم دوره فينا، بالسلب أو بالإيجاب، نحن نعيش حالة صراع مع الذات، وحالة اشتباك مع الآخر، وحالة تشظي مع القديم، ما زلنا ملتبسين في حالة مع التراث، وملتبسين مع الغرب من جانب آخر، لذلك لا يوجد لدينا نقاد كبار، أو مدارس نقدية نستطيع أن نركن إليها، ونريد أن ننحو منحاها.
فكرة الأزمة في الابداع العربي دائما ما تتصدر بحوث المهرجانات الثقافية، وتكتب عنها الأقلام، هل يعيش الابداع العربي حقا في أزمة، ومتى نخرج من هذه الدائرة السلبية؟
إذا تعافينا وبنينا، نحن في أزمة متعددة الجوانب، هناك أزمة في النقد لأن النقد لا يمكن أن ينشأ إلى على خلفية فلسفية، ونحن نفتقد لأي حد من حدود الفلسفة الأولى، وعلى صعيد الدراسة أو وجود فلاسفة، النقد بمعنى من المعاني مصاب، ونحن في أزمة، وهذا لا يعني أنه ليست هناك قامات نقدية كبرى، يمكن أن نركن إليها، هي مجرد مجهود شخص، إذن الأزمة في النقد قائمة، هناك أدب وأدعياء أدب، وهذا لا يعني حالة انحطاط الواقع العربي، نحن نعيش حالات انحطاط فكري وسياسي اجتماعي وديني، حالة تخلف ليس بالضرورة أن لا ينتج فنا، يمكن أن ينتج قامة فنية عظمى، ولا يعني أن ثمة معافاة، هناك أيضا أزمة في الشعر، لكن هناك شعر.