عبدالله بن علي العليان -
يجري بين الحين والآخر في العديد من المؤتمرات والندوات والملتقيات العربية الحديث عما ينبغي التخطيط له في المستقبل في ظل الحملات المغرضة والاتهامات الجاهزة ضد العرب والمسلمين في الجوانب السياسية والفكرية والاجتماعية. وكيف الخروج من وضعنا القائم؟ خاصة أننا في هذا الظرف الصعب نواجه أيضاً أزمات عديدة لعل أهمها التخلف العلمي والتشرذم السياسي والتراجع التقني والاقتتال الأهلي، فكل هذه الأسباب تجعل واقعنا أليماً إذا ظلت الظروف والمفاهيم التي نعيشها بعيدة عن الإسلام الذي لا نختلف على مبادئه الصافية وحقائقه الثابتة وسننه التي لا يتجاوزها الزمن.
فأي وجهة نريدها نحن العرب والمسلمين في هذا الظرف الراهن؟
لا شك أن الأمم مثلها مثل الفرد قد تصاب بالأمراض وقد يعتريها الضعف والوهن، لكن الدواء الذي يجب أن تتجرعه لإصلاح ذاتها هو مبادئها واستلهام سنن التطور من ثوابتها، فالإسلام يؤمن بثبات الأصول العامة والقيم العليا ويؤمن كذلك بالمتغيرات في التفاصيل والجزئيات والفروع، وهو مفهوم يقوم على التوازن وعلى الربط بين الثابت في مجال الأصول والمتغير في مجال الفروع. وهذا هو منهج الإسلام الذي كان يجب أن تسير عليه الأمة وتستقيم على هداه. فالبناء في الحاضر والمستقبل لا يمكن أن يقوم ويقوى إلا على أسس قوية ثابتة في الأعماق. فإذا فقدت الأمة الثقة في قيمها ومبادئها فقد أذنت بتدمير نفسها بنفسها ومن ثم التبعية لغيرها، وهذا ما عبر عنه أصدق تعبير العالم المسلم محمد أسد في كتابه: (على مفترق الطرق): «نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام، كما يظن بعض المسلمين، لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل، أما الذي نحتاج إليه فعلا فإنما هو إصلاح موقفنا من الدين، بمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام، ولكي نصل إلى إحياء إسلامي، فإننا لا نحتاج إلى أن نبحث عن مبادئ جديدة في السلوك نأتي بها من الخارج، إننا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ المهجورة فنطبقها من جديد.
وهذه المبادئ ليست غامضة ولا محتكرة، بل لا توجد وصاية لأحد على هذا الدين القويم، لكن من يود أن يضطلع بمهمة الاجتهاد ومشروعية التجديد يجب أن يكون مؤهلاً و قادراً على الاستنباط الصحيح والسليم، لا أن يجتزئ وينتقي من المبادئ والآراء ما يوافق رغباته وميوله وينسبها إلى الإسلام، وقد تكون مخالفة صريحة وتأتي بأخطاء ومخالفات ربما تجر الويلات والمشكلات مع التفريق بين تجاوز النصوص الصريحة القاطعة. القضية الأخرى الساخنة في الظرف الراهن ما عرف على تسميتها بقضية «الإسلام والغرب» و«الخوف من الإسلام» و«ظاهرة الإرهاب» وغيرها من القضايا التي كانت مدار الحوارات والنقاشات في الندوات والمراكز البحثية من أواخر القرن الماضي وحتى الآن، فإن هذه القضية التي يروج لها الغرب نعتقد أنها مفتعلة على الرغم أننا نتأثر بكل ما يطرحه الغرب ويتحدث عنه تجاه ما يصدر عنا كمسلمين، سواء كان إيجابياً أو سلبياً وفق مفهومه وتفسيره.
فتهمة الإرهاب مثلا صفة لصيقة بالإسلام والمسلمين على الرغم أن الإرهاب ظاهرة عالمية، والشواهد والقرائن كثيرة ومتوافرة، فإذا ما صدر عن بعض المسلمين أعمال إرهابية أو عنف تأتي التهمة للإسلام مباشرة، وإذا جاءت من مسيحيين أو يهود أو غيرهم ينسب إليهم بصفتهم أفراداً ينتمون إلى دولة معينة وليس لدين أو عقيدة.وعندما جاءت محنة البوسنة والهرسك والظلم الذي لحق بالبوسنيين، لم تتهم المسيحية بهذه المذابح والمجازر، وإنما جاء الاتهام إلى كاراديتش وميليشياته (صرب البوسنة) وعندما قامت الهند بتفجيراتها النووية لم تنسب التفجيرات إلى الديانة الهندوسية، لكن عندما قامت باكستان بتفجيراتها النووية كرد دفاعي فقط على تفجيرات الهند قامت قيامة الغرب ولم تقعد وتحدثت المحطات الفضائية مثل (CNN) وكبريات الصحافة العالمية عما أسمته بـ«القنبلة الإسلامية» والآن بدأت نغمة المفاعل النووي الإيراني (الإسلامي) وخطره المقبل على الاعتدال والحضارة الإنسانية!.
والغريب أننا نسمع بين الحين والآخر صيحات بعض الكتّاب والمثقفين العرب والمسلمين فيما يسمونه (تصحيح صورة الإسلام) أي تصحيح للإسلام الذي برغبونه منه؟، فإذا ما قام أفراد أو جماعة معينة بتجاوزات أو أخطاء هل يعد هذا هو الإسلام؟ لماذا لم نسمع في الغرب سواء من كتّاب أو مفكرين بعد مظالم الصرب ومجازرهم التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، والمجازر في العراق وفلسطين من يدعو إلى «تصحيح صورة المسيحية واليهودية» أي عدل في هذه الأحكام؟!
إن الإسلام بريء من تجاوزات بعض المسلمين وهي قليلة بالمقارنة بما فعلته إسرائيل في فلسطين وما فعله غزو العراق الآن، وما يفعل الآن بالمسلمين في كثير من بقاع العالم!. صحيح أن المسيحية واليهودية بريئتان من فعلة الصرب ومجازر اليهود، ومن معايير الغرب المزدوجة ومقاييسه الظالمة، لكننا للأسف نضعف عندما يتحدث الغرب عن أخطاء بعضنا وتهمته لنا بالأصولية، ويتمنى بعضنا أن يكون في حفلة تنكرية طول حياته حتى يتوارى عن الأنظار خجلاً مما يفعله بعض أبناء جنسه، مع أن أحداث البوسنة مرت على الغرب كأي قضية مع بشاعتها، بل إن بعض المفكرين البارزين وهو صمويل هنتجتون صاحب أطروحة (صدام الحضارات) الشهيرة التمس الأعذار للصرب عندما قال صراحة: «إن المسلمين يدّعون أن الغرب يكيل بمكيالين (في إشارة إلى تقاعس الغرب عن حماية البوسنيين ودعم إسرائيل)- بيد أن من المحتم أن يكون عالم الحضارات المتصارعة هو عالم الكيل بمكيالين، فالناس- كما يقول- يكيلون بمكيالين للبلدان التي تمت إليهم بقرابة وبمكيال مختلف للآخرين». فلماذا ينسب للإسلام كل ما يفعله بعض المسلمين ولا ينسب لغيره من الأديان عند أفعال أتباعهم بنفس المعايير؟
القضية إذاً واضحة لا تحتاج إلى كثير من الجهد أو العناء للبحث عن مقاييس الغرب التي أصبحت ملء السمع والبصر في عالمنا المعاصر، وتزداد مع الوقت وكأنها بديهية من البديهيات. صحيح نحن لا ننتظر من الغرب أن يكون معنا عادلاً ومنصفاً لقضايانا، لكن من الصعب أن نتفهم هذه المجاهرة بالعداوة وفي الوقت نفسه يطالبنا أن نطبق أفكاره في مجتمعاتنا ويعتبر أن تميزنا عنه فكرياً انحراف عن الجادة حسب فهمه لأنهم- أي المسلمين- لهم شخصيتهم الحضارية ولهم نظرة مغايرة للنموذج الغربي، وما دام المسلمون مستقلين فكرياً عن الغرب فإن هذه النظرة الاستقلالية في نظره خطراً عليه، سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي أعادت الأحكام السابقة للعرب والمسلمين.
النقطة الأساسية التي تشغلنا في راهننا هي: أي وجهة للإصلاح نريد؟ تلك هي القضية الأهم بغض النظر عن مفاهيم الصراع ومقولات الصدام التي يطرحها الغرب، لأن الأمر يحتاج إلى طرح مثل هذه التساؤلات في ظل عالم اليوم الذي- كما قلنا- أصبح متداخلاً ومتشابكاً ولا مجال للهرب أو التقوقع ومن هذه المنطلقات أصبح هذا الأمر ملحاً وضرورياً لطرحه ومناقشته.
وقد يقول قائل إن الوجهة التي نريدها ليست في أيدينا ولا نملك زمام التحرّك والانطلاق في ظل ضعفنا وتراجعنا الحضاري وتأزمنا السياسي، لكن هذا القول تنقصه الكثير من الوقائع والمدركات وخصائص الأمم، فالتاريخ شأن متحرك ولا يمكن أن يتوقف عند أمة من الأمم، ولذلك فإن ضبط التاريخ عند حضارة الغرب كما قال به بعض الباحثين ضرب من الوهم، والذي يريد الإصلاح عليه أن منطلقاته من الواقع الذي يعيش فيه ولا يستورد الأفكار والنظريات المعلبة ويطبقها على الواقع العربي، فهذا ليس إصلاحا بل تخريبا من الداخل، وزيادة في المشكلات وليس حلها، وهذه هي سنن الحضارات والثقافات عبر التاريخ، ولا يمكن أن ننجح في الإصلاح والتفكير المستقبلي لأمتنا السليم إلا من خلال الرجوع إلى إرثنا وثقافتنا وتاريخنا نستمد منها العبر والتجارب والإصلاح المنشود.