السيد يسين –
eyassin@ahram.org.eg
في تعقيبي على بحثين رفيعي المستوى في ندوة حول الإرهاب الجديد عقدت مؤخرا حرصت على أن أطبق منهجية التحليل الثقافي، لأنني رأيت أنها أكثر فعالية في تحليل ظواهر الإرهاب المتعددة، وأبرزها حالياً تنظيم داعش الإرهابي.
وقد انطلقت من فرضية مفادها أنه لو طبقنا المنهج الأركيولوجي وحفرنا في عمق التربة الثقافية العربية لاكتشفنا أن الجذر الأصلي للتكفير والإرهاب يتمثل في رفض الجماعات الإسلامية المتعددة سواء كانت معتدلة أو متشددة للحداثة في صورتها الغربية.
وقد التفت منذ زمن وخصوصاً في كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» الصادر في القاهرة عن المكتبة الأكاديمية عام 1996 إلى أهمية تحليل خطاب التكفير في مواجهة الحداثة.
وقررت أنه من علامات التخلف الفكري والتدهور الحضاري التي لا يمكن أن يكون حولها خلاف صعود خطاب التكفير وانتشاره في أدبيات وكتابات من ينعتون أنفسهم بالكتاب الإسلاميين في صراعهم الدائم مع خصومهم الفكريين العلمانيين. ويعتمد هذا الخطاب في بنيته وآلياته على عدد من المسلمات الخاطئة، والتى لابد لها أن تسلم إلى نتائج باطلة.
ولعل أولى هذه المسلمات أن هناك جماعات من الناس أطلقوا على أنفسهم اسم «الإسلاميين» الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى قد اختصهم- دون غيرهم من سائر البشر- لكي يكونوا هم المفسرين للنصوص الدينية، والقائمين على حماية الدين من المعتدين عليه. وأخطر من هذا كله، تجاسرهم على نعت من يخالفهم الرأي بالكفّار الخارجين عن الدين.
وهذه الجماعات- بالرغم من تعدد مشاربها وتباين توجهاتها- لها هدف واحد لا تريد أن تحيد عنه، وهو تقويض الدولة الراهنة، بزعم أنها علمانية، وإقامة سلطة دينية تحل محلها، تقوم دعائمها على النص الديني، تحت شعار الحاكمية لله وليس للبشر. وتنصب الحملة- بصورة مباشرة أو غير مباشرة- على الحداثة بمفهومها الغربي، والذي انتقل إلى الوطن العربي مع بدايات النهضة العربية الأولى.
ونظراً لغموض مفهوم الحداثة – على المستوى النظري- فقد وجد هؤلاء أن الفرصة مواتية أمامهم لإطلاق الأحكام ضد الغرب المادي الملحد، وفى مواجهة الحداثة الغربية التى ترجمت في وعيهم ببعد واحد منها هو العلمانية.
ولعلَّ السؤال الرئيسي الذي ينبغي إثارته: ما هي هذه الحداثة الغربية الملعونة التى اقتبسناها من هذا الغرب المادي الملحد؟ إن مكوناتها الرئيسية- على الصعيد العملي- هو صياغة قانون حديث يحكم المعاملات بين الأفراد، ويحدد العلاقات بين المواطنين والدولة، حيث يلعب في هذا المجال مبدأ سيادة القانون دوراً أساسياً. ولكن قبل القانون والتشريع اقتبسنا فكرة الدستور الذي ينص على مصدر السلطات، ويحدد السلطات الأساسية، السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية في ظل مبدأ الفصل بين السلطات. واقتبسنا أيضاً فكرة الأحزاب السياسية، باعتبارها- في تعدديتها- تعبر عن المصالح الطبقية المختلفة، وعن رؤى العالم المتباينة. واقتبسنا فكرة إصدار صحف منتظمة، كوسيلة من وسائل رقابة الرأي العام على ممارسة سلطات الدولة المختلفة لوظائفها. واقتبسنا فكرة التعليم العام، والتي على أساسها أنشئت المدارس الحديثة في مصروغيرها . واقتبسنا فكرة الجامعة كمؤسسة أكاديمية مستقلة، وبناء على ذلك أنشئت عشرات الجامعات العربية، والتي أمدت البلاد بالمتخصصين في كل المجالات والذين هم فعلاً عمد النهضة العربية الحديثة واقتبسنا الأساليب الحديثة في الزراعة والرى والحفاظ على الصحة العامة. واقتبسنا أساليب الصناعة الحديثة. واقتبسنا أخيراً أساليب الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون- باختصار شديد مجمل ما نعيش في ظله من منجزات حضارية مقتبس مباشرة من الحضارة الغربية.
ترى ما العيب في ذلك؟ وهل كانت لدينا- لحظة التفاعل الحضاري مع الغرب- حضارة وطنية بديلة قادرة على إشباع الحاجات المادية والروحية للجماهير، وتركناها عامدين متعمدين، واتجهنا إلى الغرب؟ أم أننا- في تلك اللحظة التاريخية- كنا نرسف فعلاً في إسار التخلف المادي والحضاري معاً، وكان هذا الحل… هو الحل الوحيد؟
غير أننا تعودنا منذ زمن على الخطاب الإسلامي التقليدي الذي درج كل صباح ومساء على هجاء الغرب- هكذا على الإطلاق وبدون تفرقة بين ثقافاته المتعددة- وعلى الادعاء بأننا فقط من دون خلق الله نحتكر الروحيات في حين يرسف هذا الغرب الملحد في الماديات. وهى ثنائية زائفة كما هو واضح، ولا علاقة لها لا بالتاريخ ولا بالحقيقة. ولكن لا بأس! هذه وجهة نظر فريق منا آثروا الاستناد إلى عمود الماضي، واعتمدوه باعتباره مرجعيتهم الأساسية في فهم الحاضر واستشراف المستقبل. غير أن هذا الخطاب لو قنع بذلك لما كان في ذلك ضير، غير أنه حين يتحول ليصبح خطاباً سياسياً يستخدم مختلف الأساليب لتقويض الدولة الراهنة، وإلغاء دستورها، وتغيير طبيعة المجتمع، باسم الحاكمية لله وليست للبشر، وبدعوى أن العلمانية التى تدعو الفصل بين الدين والدولة شرك بالله، فنحن نكون أمام ظاهرة بالغة الخطورة، ينبغي التصدي الثقافي لها، لأن هذا الخطاب الديني السياسي، يعد هو منبع الإرهاب العشوائي الذي استشرى في الآونة الأخيرة.
ولو حللنا بدقة أنماط الخطاب الإسلامي التكفيري المختلفة لاكتشفنا أن أبرزه خطابان.
الأول يدعى أصحابه – ومنهم كتاب إسلاميون معروفون- أن العلمانيين ماديون ملاحدة، وحتى هؤلاء العلمانيون الذين يؤمنون بالله خالقاً لهذا الكون وما فيه ومن فيه ولو أنهم مؤمنون إلا أنهم كافرون بالله كمدبر وحاكم في شؤون الدنيا والدولة.
أما النمط الثاني من الخطاب التكفيري فهو يزعم أنه كما أن هناك تطرفاً دينياً فهناك أيضاً تطرف علماني، وكأن أصحابه يريدون بشكل غير مباشر الدفاع عن التكفير والذي هو الأساس الفكري لكل التنظيمات الإرهابية!