صفية المقبالية /كلية العلوم التطبيقية بصحار -
مطر؛ ماء صافي النقاء فيه الخير والشفاء طال انتظاره وما إن عاد ظننا أن عودته مجددا بخيلة جداً. راحل كالراحلين لجزر بعيدة وهمية ننتظر رجعتهم دائما وتخيل لنا رجعتهم من بعيد كبعد سمائنا الملبدة بغيوم يخيَل لنا أنها على وشك السقوط بين الحين والاخر، قد غلبها الأنين في السماء فتحررت بفعل الحنين للأرض، فتسقط في قلوبنا ويكون تأثير وقوعها أشد من تأثيره على اراضينا، فيستقبل ويكرم حقه كحق أي ضيف طال انتظاره.
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن الرعود في السهول والجبال
حتى إذا ما فاض عنها ختمها الرجال
مطر … مطر … مطر …
السياب وقد كتب قصيدة المطر، كان يظن انها قد تكون المرة الأخيرة يسقط فيها بتلك القوة والغزارة، ولم يدرك بعد أن رحل أن العراق غرقت دما مرارا وتكرارا، وجاء المطر ليزيح حزنا متواصلا سكن قلوبهم، وصعدت ابتهالاتهم ودعواتهم للسماء العديد من المرات اضعافا مضاعفة لعدد حروف قصيدة المطر.فصمدت بغداد كحضارة عرفت منذ القدم، حضارة بلاد الرافدين، وهي تمتلك أعظم نهرين كانا وما زالا من عجائب الله في الأرض، فيزداد منسوب مياههما على غير العادة بوقع المطر. وجدد الجميع فرحهم غير المعتاد في قطرات المطر، فرحة لم تقتصر على الأطفال، وانما الجميع استشعر بها وأدركوا أن المطر سيريحهم ولو للحظات، يحلمون يلعبون ويتأملون ويدعون الله بحفظ بغداد والعراق وارجاع الامن والأمان لها .
تزايد المطر وزادت شهقاتهم وخوفهم على ما تبقى صامدا، فطرقات بغداد أصبحت أنهارا، وممراتها وأحياؤها أصبحت بحيرات، وروحهم المرحة مستمرة في تحويل ألمهم أملا، وجعل ألم دموعهم مطراً فيه خير وأمل، أكثر ما سببه لهم من ألم باسترجاع ذكريات من كانوا معهم يستقبلونه سويا، واليوم المطر سقى قبورهم وباتوا في رحمة ربهم، فأصبحوا يتنقلون بين الطرقات والاحياء بقوارب صغيرة ابتكروها بأنفسهم، أو على أخشاب كبيرة، ويضحكون متناسين أوجاعهم بفرح سرعان ما يزول بتوقف المطر.
وتوقف المطر، واكتست التلال والحقول باللباس الأخضر العشبي الزاهي، وخرج الجميع للعودة من جديد للحياة العملية والسابقة التي تكون أقرب للخيال، الطلبة للمدارس والجامعات، متمسكين بتعليمهم على عهد أجدادهم، فكم من عظماء وعلماء كانوا للعراق أبناء. دعوات وإبتهالات صعدت للسماء سيولاً، ودموع تذكرت واستودعت الله من لم يكن لهم نصيب باستقبال المطر معهم، وتنظفت الشوارع وازيلت آثار الأمطار المختلطة مع دماء أبرياء ماتوا رغم أن ذنبهم الوحيد تمسكهم بأرضهم الطيبة .
وبعد ما انتهى المطر؛ الجميع قصدوا بأعينهم للسماء بحثا عن قوس ألوان الطيف التي تبعث فيهم الأمل، حب العمل، الحياة، وترك الكسل. فرحوا به والتقطوا له الكثير من الصور وارتسمت على شفاهم ابتسامة نصر وفرح. انتصارهم على المطر؛ بعد غياب اغرق بلدتهم فرحاً، رغم ما يعانون من مصاعب أثناء استقباله والآثار التي يخلفها لهم بعد رحيله معنوية ومادية، مفرحة وقاسية، خوف وألم، اطمئنان وأمل.
فمطر بغداد ليس كغيره، بالفعل جميع بلادنا تمطر لكن استقباله والدعوات المصاحبة له في كل بلد تختلف لأولويات وطموحات أحبها، الشعب العراقي ليس كغيره من الشعوب، عانى وتحمل الكثير ومازال يتحمل ويعاني المزيد، وكل هذا يقوي من وحدتهم ويشد بأيدي بعضهم رغم كل ظرف، أخوتهم وصداقتهم وعاداتهم وحدت صفوفهم وجمعت كلمتهم فصار تعاونهم لتخطي كل أمر عنواناً لهم وان كان المطر فواجهوه معا استقبلوه وودعوه معاً.
وكم تمنيت أن أكون قطرة مطر تحملني إحدى السحب متوجهة لبلد الحضارة والمجد، تسقطني في أحد الأحياء هناك لأعيش تفاصيل قصيدة السياب كلمة كلمة ومعنى معنى، فالمطر رغم تأثيره الرائع الذي يختلج القلوب مع الجميع إلا أنه يصعب الشعور بنفس إحساس الذين تمنوا السلام ولو بالمطر .