تفوق الصين الاقتصادي يحدث بلبلة

إدوارد لوس – ترجمة قاسم مكي -

الفاينانشال تايمز -

أول ما يجدر ذكره، وهو الشيء الأهم، أن الصين ليست على وشك الحلول محل الولايات المتحدة بصفتها القوة الكبرى في العالم. فأخبار الأسبوع الماضي (أواخر أبريل وأوائل مايو) التي تشير إلى أن اقتصاد الصين أقرب إلى أن يتجاوز الاقتصاد الأمريكي مقوماً بالقوة الشرائية للدولار لم تكن سوى علامة إحصائية (على الطريق). ليس أكثر من ذلك. إن الصين لا هي قادرة ولا طامحة إلى ارتداء حذاء الولايات المتحدة. وستحتاج إلى عشرة أعوام أو نحو ذلك قبل أن تتفوق على الولايات المتحدة على أساس القوة الشرائية للدولار. وحكاية حقبتنا الراهنة هي أن الولايات المتحدة تقل رغبتها باطراد في مواصلة لعب الدور الذي ظلت تلعبه في الأعوام السبعين الماضية. بل هي، في جوانب مهمة، لا تملك القدرة على ذلك. إن ما سيعقب العصرَ الأمريكي حقبةُ تعددية الأقطاب وليست حقبة الصين. والسؤال هو أي نوع (من التعددية)؟ هل سترتكز على نظام القواعد الدولية المؤَطََّرة من قبل الولايات المتحدة؟ أم ستكون «أنا أو الطوفان»؟ لقد بدأ سلفاً التحول في المشهد الجيوبوليتيكي على كلا طرفي الامتداد الجغرافي الأوروآسيوي. في الأسبوع الماضي عاد باراك أوباما من جولة إلى أربع جارات للصين تخشى كلها من قوة إقليمية مهيمنة ومتمددة. وقد أنفق الرئيس الأمريكي جل ما تبقى من وقته في محاولة إنقاذ الوحدة بين أولئك الذين يعيشون في جوار روسيا باتجاه الغرب بدءا من أوكرانيا. ويخشى هؤلاء بدورهم من قوة إقليمية تتزايد نزعتها الإفتراسية. قبل جيلين من الآن، تولى جورج كينان تأطير إستراتيجية « الإحتواء» الأمريكية الشهيرة للاتحاد السوفييتي. واليوم فإن الولايات المتحدة تسقط متعثرة في احتواء ثنائي للصين وروسيا. لا يزال الطلب على قيادة الولايات المتحدة قوياً. ولكن قدرة أمريكا على استدامة إستراتيجية احتواءٍ ثنائيٍّ تظل سؤالاً مفتوحاً. إن عودة تنافس القوى الكبرى في آسيا وأوروبا تجد شبيهاً موازياً لها في التحولات الاقتصادية العالمية. وتظل الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأكبر (قياسا بالناتج المحلي الإجمالي المقوم بالدولار). وهو المقياس الوحيد المعتبر. ويظل نصيب الفرد من ناتجها المحلي الإجمالي أعلى بخمس مرات من نصيبه في الصين. وربما يلزم الصين مرور40 عاما أو أكثر كي تلحق مستوياتها المعيشية بنظيراتها في الولايات المتحدة. في بداية هذا القرن كان حجم اقتصاد الصين يساوي 4% من الاقتصاد العالمي مقوماً بالدولار. والآن فهو حوالي 12%. وهبط حجم الاقتصاد الأمريكي من الثلث إلى نحو 20%. نعم ستتجاوز الصينُ الولاياتِ المتحدة في وقت ما خلال العقد القادم. ولكنها لايمكنها أبدا الحلول محلها. وهنا يكمن الخطر. فالولايات المتحدة لن تملك القدرة على المحافظة على النظام العالمي في حين ستفتقر الصين دائما إلى الشرعية. فالصين، بالإضافة إلى كونها نظاما استبداديا، ليست مؤسسة على الهجرة. ولم يحدث أبدا أن سعت إلى إبداء أو الإعلاء من شأن قيم عامة مشتركة. نحن الآن في المراحل الأولى من عالم اقتصادي متعدد الأقطاب. لقد بُني النظام العالمي الأمريكي في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حول مؤسسات دولية دشنها هذا النظام نفسه (الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحلف الناتو). كما تأسس أيضا على إتفاقيات تجارة دولية متتابعة تُوِّجَت في جولة أورجواي لعام 1994. ومنذ ذلك التاريخ عجزت الولايات المتحدة عن استكمال جولة جديدة. أما جولة الدوحة فقد شبعت موتاً. وتتعثر مبادرتا أوباما الكبيرتان بشأن التجارة في أوروبا ومنطقة المحيط الباسفيكي. وقد أطلقتا كلتاهما لأسباب دفاعية. ولم يتم إدراج الصين في شراكة عبر الباسفيكي. كما أن روسيا ليست جزءا من محادثات عبر الأطلنطي. ولكن الولايات المتحدة تفتقر إلى القوة اللازمة لإكمالهما. وينطبق نفس الشيء على إصلاح صندوق النقد الدولي. إنه لمن العبث أن تكون الحصة التصويتية للصين في أعلى هيئة اقتصادية للعالم 4% فقط. وهي نسبة بالكاد تساوي ثلث وزنها الاقتصادي (مقوما بالدولار) في الاقتصاد العالمي. كما أن بلدانا مثل الهند والمكسيك والبرازيل ضعيفة التمثيل جدا. ولاتزال بلجيكا تتمتع بثقل تصويتي أكبر من أي من هذه البلدان. ومن المفهوم أنها تبتعد الآن عن المؤسسات التي بنتها الولايات المتحدة. ومما يحسب لأوباما أنه أكمل مفاوضات حوكمة صندوق النقد الدولي التي بدأت في عهد جورج دبليو بوش. وتوصل إلى إتفاق لزيادة تمثيل العالم الصاعد. ولكن حتى إعادة الاعتبار الهامشية للأوزان اعترض عليها الكونجرس. وهو أيضا يغلق مساحة الحرية التي يتحرك فيها أوباما لانفاذ مبادرتيه التجاريتين. إن الولايات المتحدة تتصرف كقوة مهيمنة في حالة اضمحلال. فهي غير راغبة في اقتسام النفوذ وفي ذات الوقت غير قادرة على فرض النتائج. ونفس هذه التأثيرات تبدو واضحة في سياسة أمريكا لمعالجة مشكلة التغير المناخي. فبصفتها أغنى بلد في العالم، عقدت الولايات المتحدة اتفاقا لتقديم الدعم المالي لتخفيضات إنبعاث الكربون في العالم الصاعد. ولكن ما يسمى باستراتيجية «النقود مقابل خفض الانبعاثات» تفتقد إلى مكون حيوي هو النقود. ولن تفي لا الولايات المتحدة أو شركاؤها بأي شيء شبيه بالعون المناخي السنوي (100 بليون دولار) الذي وُعِدَ به في محادثات كوبنهاجن في عام 2009. فالكونجرس يعترض مرة أخرى على قيادة الولايات المتحدة. وأوباما لاحيلة له. وما يستوجب الحمد أن الصين والهند وبلدان أخرى بدأت تدرك بأن كفاءة استخدام الطاقة من مصلحتها. لكنها تُحدِث التغييرات اللازمة بمبادرة منها. غير أن الأوان لم يفت بعد. فالولايات المتحدة تحمل أوراقا أكثر من أي بلد آخر (تتيح لها) تحديد الشكل الذي سيبدو عليه العالم المتعدد الأقطاب. إنها تملك شرعية أكبر من أي منافس محتمل، أي الصين تحديدا. ولكن قدرة أمريكا على معالجة هذه التحديات الضخمة يعيقها شللها الداخلي. ولُبُّ ذلك يتمثل في الحظوظ المتدهورة للطبقة الوسطى الأمريكية التي تشكل الأساس لنفوذها الدولي في فترة ما بعد الحرب. فتنامي عدم المساواة الاقتصادية في أرجاء الولايات المتحدة والتداعيات السياسية في واشنطن قضيا على روح الشهامة. وهي الصفة التي عرفت بها القيادة الأمريكية في حقبة الحرب الباردة. يستحيل حساب هذه الخسارة كميا. ولكنها ليست غير حقيقية بسبب ذلك. إن أمريكا لاتزال تملك القوة الكافية لضبط نغمة الانخراط في السياسة الدولية والتوصل إلى نتائج تخدمها وتخدم العالم. ولكن سيلزم الولايات المتحدة استعادة روح المصلحة الذاتية المستنيرة التي كانت يوما ما الصفة المميزة للأمة الأمريكية. ينبغي علينا أن نأمل كلنا في أن تلك الروح هي الآن في حالة كمون لا حالة فناء.