جولة دبلوماسية.. بعيدة عن الأوهام !!

د. عبدالحميد الموافي –

إنَّ طرح الامر على مجلس الامن، وادارة المعركة داخله، والنجاح في إبراز أهمية وضرورة إنهاء الاستعمار الإسرائيلي خلال عامين تقريبًا، وكسب مزيد من التأييد الدولي، الشعبي والرسمي لقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في إطار حل الدولتين، هو دعم للحقوق الفلسطينية.


ليس من المبالغة في شيء القول إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، هو من أكثر من خبروا الأمم المتحدة، والعمل من خلالها على مدى العقود الماضية، من أجل محاولة استخلاص الحقوق الفلسطينية المغتصبة، أو على الأقل بناء أكبر قدر من التأييد الدولي المتماسك لها. ومن ثم فانه من الشخصيات الفلسطينية والعربية التي لا يساورها أية أوهام فيما يتعلق بقدرات الأمم المتحدة، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه، وطبيعة وعقبات العمل في داخل مجلس الأمن الدولي بتركيبته المعروفة، وبتأثير الخمسة الكبار وما يملكونه من فيتو بما في ذلك الموقف الأمريكي المعلن والمعروف حيال القضية الفلسطينية منذ بداياتها. وبرغم ذلك كله فانه لجأ الى مجلس الأمن الدولي، وعرض مسألة انهاء الاستعمار الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية عليه، عبر تأييد عربي واضح، وفي ظل تعاطف دولي، وخاصة اوروبي متزايد وملموس، وغير مسبوق أيضا في بعض جوانبه. فهل يطمح الرئيس الفلسطيني في أن ينسى مجلس الأمن خبرته ومواقفه السابقة ويؤيد المطالب الفلسطينية المطروحة؟ ، أو ان تنسى واشنطن مثلاً تعهداتها لاسرائيل وتتغافل عما اعلنته من عزم على استخدام الفيتو ضد مشروع القرار العربي الذي شاركت رام الله في صياغته وتسمح بتمرير القرار؟ المؤكد أن الرئيس الفلسطيني، وهو شديد الواقعية والحنكة أيضا، يعرف جيداً ما سيؤول إليه الموقف في مجلس الأمن الدولي، وان الكرة ستعود بشكل أو بآخر إلى ملعب المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية مرة اخرى، ولكنه يريد أن يحصل على نقطة، أو ورقة ضغط أخرى، سواء على إسرائيل وحكومتها الأكثر تطرفاً ويمينية بقيادة نتانياهو، أو في مواجهة واشنطن، ومن ثم محاولة الدفع بها -واشنطن- إلى التفكير في طريقة تعاملها مع الحقوق الفلسطينية بشكل مختلف عما اعتادت عليه حتى الآن.

ومن ثم فان لجوء الرئيس عباس إلى مجلس الأمن هو بمثابة صرخة محسوبة، يمكن أن تضيف بعض الفائدة للدولة الفلسطينية التي اعترفت بها الأمم المتحدة، كدولة غير عضو، حتى ولو كان مجرد إضفاء قدر من القوة في تعامل الدولة الفلسطينية مع أجهزة الأمم المتحدة ومنها مجلس الأمن الدولي ذاته، وترسيخ هذا الأمر في عقول الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بمن فيهم الولايات المتحدة وإسرائيل. على اية حال فانه يمكن الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

** أولاً: إن اللجوء الفلسطيني الى مجلس الامن الدولي، هو في جانب منه على الاقل، دعوة لتصفية آخر شكل من اشكال الاستعمار في العالم، وهو الاستعمار الاسرائيلي للاراضي الفلسطنية المحتلة عام 1967 من هنا تحديدا يطال مشروع القرار العربي بوضع سقف لانهاء الاستعمار الاسرئيلي، ويقترخ ان يكون ذلك بعد عامين، على ان تنتهي المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية خلال عام من اجل الاتفاق على تحقيق السلام والانتهاء من مختلف جوانب المفاوضات. وفي الوقت الذي يدرك فيه الفلسطينيون والعرب واصدقائهم ان اشراك مجلس الامن الدولي في امر كهذا، من شأنه وضع المجتمع الدولي، ممثلا في الامم المتحدة، أمام مسؤولياته حيال واحدة من اوائل القضايا التي تعاملت معها المنظمة الدولية الام منذ انشائها في عام 1945، فانه من المؤكد ان طرح القضية كقضية تصفية استعمار واحتلال الاراضي الفلسطينية بالقوة، سيفتح المجال بالضرورة – بشكل أو بآخر – امام امكانية استدعاء عشرات القرارات التي صدرت عن هيئات الامم المتحدة بشأن فلسطين، وبشأن الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، والاكثر من ذلك انه يمكن العودة الى قرار تقسيم فلسطين ذاته والصادر في 29 أكتوبر عام 1947، وهو القرار الذي انشأ اسرائيل في الواقع، ومن خلال مجلس الأمن الدولي. صحيح ان العرب رفضوا ذلك القرار في ذلك الوقت، ولكن الصحيح ايضا انه من المهم والضروري استدعاء ذلك القرار، مرة اخرى والتمسك الفلسطيني به. نعم تغير الوقت كثيرًا، وخاصة على الارض في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن استدعاء هذا القرار ومحاولة استخدامه في هذه المعركة السياسية والقانونية، من شأنه أن يفيد القضية الفلسطينية، وخاصة ما يتصل بالقدس ومستقبلها. والمؤكد أن اسرائيل لا تريد الاقتراب من ذلك بأية وسيلة، لانها ببساطة ستكون الخاسرة امام الجميع، وان ذلك سيفتح امورا لا تريد هي ان تعود اليها ابدا. وقد يقول قائل انه لا فائدة من ذلك كله، وان اية جهود في مجلس الامن لن تغير على الارض شيئا في ظل التشدد الاسرائيلي والتأييد، بل والحماية الأمريكية، للاطماع الاسرائيلية في فلسطين، غير أن الواقع يشير إلى غير ذلك في الحقيقة، فهناك الآن مناخ مختلف في اوروبا، وخاصة على الصعيد الشعبي، وهو ما عبرت عنه كثير من البرلمانات الاوروبية، التي طالبت حكوماتها بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود عام 1967، وهذا امر ما كانت تتخيله اسرائيل أبدا. كما ان هناك ادراكًا امريكيًا متزايدًا لحقيقة ان التوصل الى تسوية للقضية الفلسطينية، وتحقيق سلام عادل في المنطقة، هو مدخل ضروري لاستعادة الاستقرار في هذه المنطقة ولمقاومة الارهاب وانهاء حالة المد التي يغرق فيها المنطقة.

ومن ثم فانه لم يعد ممكنا الرهان على استمرار الوضع الراهن لفترة طويلة قادمة.ولعل الادراك الفلسطيني، من جانب الرئيس عباس، لذلك كله هو ما يفسر في الواقع الطريقة التي تم ويتم التعامل بها مع مشروع القرار العربي في مجلس الأمن الدولي، بل وامكانية تأجيل التصويت عليه، وامكانية ادخال تعديلات عليه في أروقة مجلس الامن الدولي خلال الاسابيع القادمة، وربما حتى الانتخابات الاسرائيلية القادمة وتشكيل حكومة جديدة في اسرائيل. والمنتظر خلال الايام القادمة ان تبلور الدول العربية موقفها وتتضح ملامح التحرك العربي والفلسطيني في مجلس الامن الدولي، وبدون أية أوهام. ** ثانيًا: إنه بغض النظر عن النتيجة التي سيؤول اليها مشروع القرار العربي في مجلس الامن الدولي، وسواء استخدمت واشنطن الفيتو ضده، أو لجأت الى اساليب كسب الوقت المعروفة في مجلس الامن الدولي، أو تعطيل التصويت لاطول فترة ممكنة، فان طرح الامر على مجلس الامن، وادارة المعركة داخله، والنجاح في إبراز أهمية وضرورة انهاء الاستعمار الاسرائيلي خلال عامين تقريبا، وكسب مزيد من التأييد الدولي، الشعبي والرسمي لقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في اطار حل الدولتين، هو دعم للحقوق الفلسطينية، وهو دعم يستحق خوض المعاناة والمواجهات في داخل مجلس الامن وخارجه، من أجل تحقيقه. وبالرغم من كل ما تطرحه قوى اليمين والمتطرفين والمستوطنين الاسرائيليين بشأن الاراضي الفلسطينية وبشأن مستقبل القدس المحتلة، فانه يتبلور في إسرائيل توجهات وتيارات تزداد قناعة بضرورة التوصل الى سلام في اطار حل الدولتين، وعدم استبعاد أن تكون القدس عاصمة للدولتين الفلسطينية والاسرائيلية بشكل يتم الاتفاق عليه. وتشير محصلة التطورات المرتبطة بالقضية الفلسطينية بوجه عام الى قبول دولي متزايد بضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة وان هناك قضايا أخرى يريد الجميع أن يتفرغ لها وان يبذل من اجلها جهودا أكبر وفي مقدمتها قضية مكافحة الارهاب في المنطقة، والتوجهات الاستراتيجية الأمريكية، بل والروسية، الجديدة وانعكاساتها على المنطقة. وقد باتت تسوية القضية الفلسطينية مفتاحا هاما لذلك، ويشكل التحرك من خلال الأمم المتحدة صيغة تحفظ ماء الوجه في النهاية لكل الأطراف في الواقع. ومع ذلك يبقى التحرك الراهن خطوة على الطريق ستعقبه خطوات أخرى على الأرجح، سواء عبر مجلس الأمن أو عبر واشنطن.

** ثالثاً: إنه في الوقت الذي تلتزم فيه حركة حماس والفصائل الفلسطينية في غزة، بوجه عام، بالهدنة مع اسرائيل، وهو ما يلتزم به حزب الله ايضا في لبنان، بغض النظر عن التصريحات الطنانة هنا او هناك لاغراض معروفة، وفي حين تواجه المصالحة الفلسطينية صعوبات عدة، خاصة مع إعادة حماس وفصائل فلسطينية أخرى تنشيط علاقاتها في اتجاه اطراف اقليمية محددة في ضوء خطوات المصالحة المصرية القطرية، فان تحويل لجوء الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مجلس الامن الى عنصر خلاف فلسطيني آخر، بين حركات حماس والجهاد والجبهة الشعبية وبعض الفصائل الاخرى في غزة، وبين الرئيس الفلسطيني، والعودة الى لغة الاتهامات، لا يفيد أبدا فلسطين وقضيتها وحقوقها، لا في الحاضر ولا في المستقبل، كما انه يسمح لاسرائيل في الحقيقة بالتنصل من أية التزامات واستخدام تلك المواقف من جانب فصائل غزة للتهرب من التوصل لاية اتفاقات، وبذلك تكون تلك الفصائل قد افادتها ليس فقط على الارض، ولكن أيضا داخل مجلس الامن، في حين تذهب تصريحاتها في اتجاه آخر، وهو ما يحير الكثيرين الذين يحتارون بين المواقف الفعلية وبين التصريحات الطنانة الممتناقضة، ولكن لا شيء يعز على فهم المتابعين بدقة لمجريات ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة واسرائيل وعلى امتداد المنطقة والعالم من حولنا.