يوسف القعيد –
يقولون فى سياق محاولات البحث عن سر إسم المدينة، ولكل مدينة حكاية تدور حول إسمها. قد تصل إلى حدود الأساطير. أن من بنى مدينة فاس. طلب فأساً وضرب الضربة الأولى. وهو يقول: هذه فأس لفاس. ويحكون أنه من يومها. فإن الهمزة على الألف لا تكتب فى الكتابة المغربية لحروف اللغة العربية.
وفاس مدينة مُعمرة. وإن كانت ترتبط فى الذهن بالخروج العربى من الأندلس التى أصبحت إسبانيا بعد ذلك. وفى فاس مكان معروف إسمه: عدوة الأندلسيين. ويقال أن الذين هجروا الأندلس عدُّوا من هذا المكان بالتحديد. وفى رواية ليون الأفريقى. للروائى أمين المعلوف. فإن فاس هى المحطة الأولى التي يصل إليها محمد الوزان بعد خروجه من الأندلس. قبل أن يجرى لها ما جرى وهو كثير أكثر من الهم على القلب.
هذه زيارتي الثالثة للمغرب. الأولى كانت لأغادير. المدينة التي قضى عليها زلزال رهيب. وقد بنيت مدينة أخرى في مكانها. وإسمها معروف منذ أيام الزلزال. والزيارة الثانية جمعت بين الرباط والدار البيضاء، العاصمتان السياسية والاقتصادية معاً.
وهذه هي الزيارة الثالثة إلى فاس. المدينة التي حلمت بزيارتها لأنها مدينة قديمة. قضيت في فاس ثلاثة أيام وثلاث ليال. مرت كلها كالحلم وبعد هذه الزيارة عدت ولدىّ تصور أنه من الصعب معرفة أين تنتهي فاس؟ وأين تبدأ الأندلس فيها؟ كل شئ فيه رائحة الأندلس. أى مكان تذهب إليه أي حكاية تسمعها، عبق الأندلس هنا. هو الشيء الوحيد المؤكد.
والمدينة القديمة تشبه إلى حد كبير. حي خان الخليلى عندنا في مصر. لولا أن التطوير وتغيير الملامح. ترك السيارات تدخل إلى خان الخليلي. أما في فاس فالبغال هي التي تحمل الأشياء ولا تدخل سيارة إلى الحي القديم أبداً. مهما كانت الأسباب.
ثمة فارق آخر. تشعر في خان الخليلي وكأن هذا الحي كله موجه إلى السياح. لا شيء فيه للمواطن ابن البلد ولذلك ما إن تغلق المحلات أبوابها حتى لا تجد إنساناً فى الحى كله. أما هنا. فالناس تمارس حياتها العادية. والمعروض من السلع جزء كبير منه موجه إلى أبناء المدينة علاوة على بضائع السياحة والسياح.
فى الطريق إلى جامعة القرويين توقفنا أمام بيت ابن خلدون. البيت الذي عاش فيه عبد الرحمن ابن خلدون عندما عبر من خلال المدينة أكثر من مرة. سواء في اتجاه الشرق أو اتجاه الغرب. من الأمور الجيدة أنهم مازالوا يحتفظون بهذا البيت حتى الآن. كان لإبن خلدون بيت في القاهرة أيضاً. ولكن أين هو؟ لم يبق من وجوده في مصر سوى رواية أحمد رشدى صالح «رجل فى القاهرة» والتي نفذت طبعتها الأولى منذ سنوات. ولم يفكر أحد فى إعادة طبعها لأن مؤلف الرواية استأذن وترك الدنيا بكل ما فيها ومن فيها.
جامعة القرويين صورة أخرى من الأزهر الشريف كانت مسجداً ثم تحولت إلى جامعة. وظل المسجد يقوم بدوره. ربما كانت هي الأصل. ولكن لا يضايق الإنسان سوى النجمة السداسية في كل مكان هنا. هذه النجمة مرتبطة في الذهن بإسرائيل. ربما أخذت إسرائيل النجمة من هنا. ولكن وجودها فى كل مكان يجعل الإنسان يعيش حالة من اللبس.
دخلنا جامع القرويين وكان الوقت مساء. عرفنا أن شيخ الجامع في الداخل. دخلنا عليه. ما إن أغلق الباب علينا من الخارج. حتى بدونا وكأننا تركنا هذه الأيام ورحلنا إلى الزمان الماضي البعيد. وكأن هذا الإمام ليس من زماننا. كنا نجلس أمامه على الأرض – جمال الغيطاني وأنا – تفصلنا عنه الكتب القديمة المرصوصة أمامه. كما لو كانت سوراً يحجز عالمنا وكل ما يجري فيه عنه. عرف أننا من القاهرة. قال أننا أقرب إلى الأراضى المقدسة. وهم بعيدون. حسدنا على هذا القرب وقرأ لنا الفاتحة. وطلب لنا الرحمة والتوفيق والعودة إلى بلادنا سالمين.
من الصعب أن نزور بيت ابن خلدون ولا نذهب إلى ضريح لسان الدين ابن الخطيب صاحب «روضة التعريف بالحب الشريف». الضريح هناك لا يعرفونه سوى أنه في منطقة يقال لها «باب المحروق» وهو المكان الذي حرق فيه لسان الدين ابن الخطيب. كانوا يسمونه فى حياته صاحب الوزارتين. وكانوا يقولون عنه ذى العمرين لأنه كان مصاباً بحالة أرق دائم. لا ينام الليل أبداً. وهكذا أضاف إلى عمره عمراً آخر.
لقد طارده هذا اللقب الثنائي حتى القبر. فأصبح أيضاً صاحب الميتتين وتقول كبت التاريخ عنه أنه بعد قتله حوكم من جديد بعد إخراجه من القبر ثم أحرق وسمي المكان الذى حرق فيه: باب المحروق. ثمة حكايات عن صراع بين دول وحكام. وكلام آخر عما حواه كتابه عن الحب. وتباغض وتباعد بينه وبين ابن خلدون. ولكن هذا كله لا يبرر مثل هذه النهاية لكاتب مثل لسان الدين ابن الخطيب. فى المغرب لا يقيمون أضرحة كبيرة. ولذلك فإن ضريح لسان الدين ابن الخطيب ومساحته حوالي أربعة أمتار في أربعة أمتار. ويقال أن هذا وضع جيد مقارنة بغيره من الأضرحة الأخرى.
دعك من الطعام المغربي والأكلات التي لا يمكن تناولها سوى هنا فى فاس. ولكن فى فاس سمعت مطرباً مغربياً اسمه: عبد الرحيم الصويرى يغنى غناء أندلسياً. نوع من الوهم الجميل يقول لك «الأندلس لنا». مثلما قلنا بالأمس مع فيروز:
«القدس لنا». وهكذا أصبحت القدس لنا. وانظر حولك ترى كيف أصبحت لنا.
وها نحن نهاجر إلى الأندلس مع الصوت القوى والعملاق لعبد الرحيم الصويري وهو يغنى وينشد وحوله عازفون يعزفون على آلات موسيقية لا نسمع عنها سوى في كتابات المؤرخين القدامى الذين يكتبون عن الأندلس قبل أن تضيع.
عندما وصل الغناء إلى الذروة. وبدأ الإيقاع يصبح قريباً من حلقات الذكر. فوجئت بجمال الغيطانى يترنح وسط حلقة الذكر ولكن على أنغام قادمة من الأندلس البعيد وتتسع حلقة الذكر ولكن بدون الهدير الروحي الجميل: «الله حي.. الله حي». ونخرج إلى ليل فاس. الشوارع والجبال العالية ولكن بدون زحام الصباح. وبعيداً عن شمس النهار القاسية التى لا ترحم رغم أننا في الخريف.
عند الرحيل من فاس أقول ولكن لنفسي: إنها ليست مدينة ولكن متحف مسكون بالبشر.