بدر بن سالم العبري – باحث وكاتب عماني -
نواصل في هذه الحلقة التأملَ في مقاصد آيات الصيام، حيث توقفنا عند قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، والإشارة في الصيام خُصوصا إلى الأمم السابقة، فيه دلالات حضارية عميقة، سنشير إلى بعضها.
وإذا جئنا إلى شريعة الله تعالى نجدها واحدة مع بعض الاختلاف حسب تدرج الزمان والمكان، يقول تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)، لذا سنجد معالم الدين الكبرى كالصلاة والصيام والحج والنذور ونحوها تتكرر عند جميع الأمم حتى اليوم.
فالصيام مثلا نجده عند اليهود في أهم أيامه وهو صوم الغفران، حيث يصومون فيه عن الشراب والطعام والجماع وارتداء الأحذية لمدة خمس وعشرين ساعة من غروب الشمس في اليوم السابق وحتى غروب الشمس في يوم اللاحق، ونجد هذه الكيفية من الصيام تقترب من الصورة في روايات بدء الصيام، فقد أشارت الروايات أنّ الناس في بداية تشريع الصيام يأكلون ويشربون ويباشرون نساءهم بعد غروب الشمس ما لم يناموا ويصلوا العشاء، فإذا ناموا أو صلوا العشاء لم يجز لهم شيء من ذلك حتى الليلة القادمة، واجتناب الطعام والشراب والجماع ما زالت الصورة المعمولة في الشريعة الخاتمة.
ومن الصيام عند اليهود ما يوافق الصيام عند المسلمين في كيفيته كليا، فهم يصومون من شروق الشمس إلى غروبها، مع اجتناب المحارم الثلاث الطعام والشراب والجماع، واعتمادهم على الحساب القمري في ذلك.
وأشارت بعض الروايات إلى دخول ثقافة صيام عاشوراء إلى المسلمين عن طريق اليهود، فقد روى ابن عباس أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأمر بصيامه.
وفي الثقافة اليهودية أنّ اليهود كانوا يصومون يومي الاثنين والخميس وذلك لأنّ من الأيام التي تقرأ فيها التوراة في المعبد، وفي الثقافة الإسلامية يرغّب في صيامهما بحجة رفع الأعمال إلى الله في هذين اليومين، وأفضل ما يرفع من الأعمال الصيام. سنجد مما سبق وجود الصيام عند اليهود أولا، ثم تأثر المسلمين ببعض طقوس اليهود عن طريق المدّ الروائي، وعليه جاء النص القرآني ليحقق بعدين: البعد الأول إثباتي، والبعد الثاني تصحيحي. أما البعد الأول وهو الإثباتي أي أنّ القرآن لا ينكر وجود الصيام عند الملل والنحل الأخرى، ولكن حدث فيه زيادة ونقصان بسبب عامل الزمن، وتقادم الرسالات، وطروء التحريف إلى شرائع هذه الأمم، ومع هذا يثبت وجوده، وهو نراه اليوم عند اليهود والبوذيين والمجوس ونحوهم، وقد ضربنا مثالا عند اليهود فقط لضيق المقام. لذا جاء البعد الثاني وهو البعد التّصحيحي كما سنرى – بإذن الله تعالى – من خلال التأمل في الآيات التالية من الصيام في الحلقات القادمة.
ومع وجود الجانب التصحيحي القرآني سنجد تسربات طقوسية من الملل الأخرى عن طريق روايات الصيام، وجعل الصيام مجرد طقس سنوي لا يؤثر في حياة الناس.
وذلك لأنّ القرآن أهمل إثباتا وتصحيحا نتيجة الخلل في التعامل معه، وسيطرة الجانب الروائي عليه، مما جعل دوره محصورا في الصلوات وحلقات الحفظ، بجانب الأوراد الصباحية والليلية ونحوها.
والأصل إنزال القرآن كما أنزله الله سبحانه وتعالى ككتاب فرقان وتصديق وتصحيح وهيمنة، يقول سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
وإذا كان هذا مع كتب الله السابقة المبينة لشرائع الله المنزلة، ومع ذلك جاء التحريف والتصحيف، فجاء القرآن بإرجاع الأمور إلى نصابها، مع بيان شرع الله ليس مجرد حركات وسكنات، ولكنه يحوي أبعادا مقاصدية، وأسسا حضارية.