د. سعيد الوائلي -
في ختام حديثنا في الأبعاد التفسيرية، ونجعله تتمة لموضوع القصص القرآني، لننظر فيما تعرض إليه كثير من المفسرين والباحثين في الدراسات القرآنية لمسألة تكرار القصة في القرآن، خاصة إذا ما لوحظ جانب الاختلاف في ورودها، إن صح التعبير. فهل يعتبر ذلك تكرارا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما فائدة هذا العرض القصصي بهذه الصورة؟.
مهما يكن من تسمية لعرض القصص في مواضعها المتعددة، سواء قيل بأنه تكرار أو غير تكرار، لا محيص من التسليم به، مع أنّ كثيرا من العلماء يعلن بإلحاح أهمية نفي تسمية ذلك بالتكرار، دفعاً لما يستلزمه التكرار من تنقيص في حقّ الكتاب العزيز، ومن نصّ لسماحة الشيخ الخليلي يقول فيه: «وقد يتبادر لقارئ القرآن أول مرة عندما يجد القصة الواحدة مذكورة في العديد من السور أن ذلك تكرار، ولكن إذا عاد إلى السور ومحتوياتها، ومقاصدها، والمعروض من القصة فيها، وأسلوب العرض، أدرك أن ذلك بعيدعن التكرار. فإن السورةلاتعرض القصص بطريق السرد كما هو شأن القصاصين، وإنما تأتي منها بقدر ما يخدم الموضوع الذي ذكرت خلاله القصة، وبحسب ما يتلاءم مع هذا الجو». فنرى شيخنا الخليلي في هذا النصّ لا يرتضي تسميةذلك بالتكرار، بل أطلق عليه: الذكر في العديد من السور.
بقى مجال البحث عن فوائد ذلك، كما يلاحظ عن طريق التأمل أنّ «فوائد القصص تجتلبها المناسبات، وتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة معه، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى».
فكان من أبرز الفوائد المذكورة في إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، مع ما تؤديه من معنى واحد، الفائدة الإعجازية، لتحقيق التحدي، حيث إنّ من الأمر الصعب الذي تظهربه الفصاحة، وتتبين به البلاغة: إعادة كثير من القصص في مواضع كثيرة مختلفة، على ترتيبات متفاوتة.فكان تحديا للبشرعن الإتيان بمثله.
«ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ أخرى».
ولكن ثمّة فوائد أخرى، وردت الإشارة إليها، وسأسرد بعضها، وقد ذكر أن البدر بن جماعة ألف كتابا سماه المقتنص في فوائد تكرار القصص، من ذلك:
- أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة وهذه عادة البلغاء.
- أن فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين، وتفصيل ذلك: «أن يكون بعض القصة المذكور في موضع مناسبا للحالة المقصودة من سامعيها، ومن أجل ذلك تجد ذكرا لبعض القصة في موضع وتجد ذكرا لبعض آخر منها في موضع آخر؛ لأن فيما يذكر منها مناسبة للسياق الذي سيقت له، فإنها تارة تساق إلى المشركين، وتارة إلى أهل الكتاب، وتارة تساق إلى المؤمنين، وتارة إلى كليهما، وقد تساق للطائفة من هؤلاء في حالة خاصة، ثم تساق إليها في حالة أخرى. وبذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على حسب المقامات».
- أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. فتبرز وجوه البلاغة، حيث «إن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجازأواستعارات أو كناية، وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل: ولئن رددت، ولئن رجعت، وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة، فذلك وجه من وجوه الإعجاز».
- أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام فلهذا كررت القصص دون الأحكام.
- أن القصة لما كررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان وتقديم وتأخير وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى، فأفاد ذلك ظهورالأمر العجيب في إخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظم، وجذب النفوس إلى سماعهالما جبلت عليه من حب التنقل في الأشياء المتجددة وتلذذهابها، وإظهار خصوصية القرآن حيث لم يحصل مع تكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ، ولا ملل عند سماعه فباين ذلك كلام المخلوقين.
هذه جملة من الفوائد التي ذكرت في البحث عن فوائد إيراد القصة القرآنية في مواضع متعددة، على ماسماه البعض تكراراً، وعدم ارتضاء بعضهم لهذه التسمية، فكان الاجتهاد في دواعي إعادتها له دافع للنظر في دراستها، فهل كانت القصة القرآنية متكررة دائما؟ أم أنّ من القصص القرآني ما لم يذكر إلا في موضع واحد؟
يظهر في عدم تكرار بعض القصص القرآنية فوائد، بالنظر إلى مقاصد القصة والهدف من إيرادها، كما هو الشأن في قصة يوسف، وقصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وقصة موسى مع الخضر، وقصة الذبيح.
هذا، والأمل في الله كبير أن أكون قد وفقت لعرض الفكرة وصياغتها بالصورة المناسبة، فما كان من صواب، فالله الموفق إليه، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله تعالى الصفح والغفران.