إميل أمين –
كاتب مصري –
emileamen@gmail.com
تبقى التجربة البرازيلية مثيرة للانتباه في العقدين الماضيين وحتى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ذلك أنه وبعد عقود من التردي الاقتصادية والارتهان للمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد، ها هي البرازيل تخرج إلى آفاق العالم ما بعد النامي إن جاز التعبير، ولتضحي اليوم دولة رائدة من ضمن دول البريكس الخمس، التى أضحت تشكل قيمة وحقيقة اقتصادية فاعلة على الصعيد العالمي.
يحق لنا أن نتساءل ما هو السر وراء تجربة البرازيل الناجحة؟ حكما أنه نموذج القيادة الوطني، نموذج البذل والعطاء، لا الأخذ والبخل على الوطن، نموذج تجلى في الرئيس «أنياسو دا سيلفا»، العامل الفقيرالأصل، الذي بدأ حياته ماسحاً للأحذية، وقدر له لاحقاً أن يرفع ثلاثين مليون برازيلي من تحت خط الفقر في سته أعوام.
كانت تجربة «دا سيلفا رائدة ورائعة في نفس الوقت، حتى عند انتهاء ولايته الثانية، ضرب دا سيلفا مثالا رائعا في احترام الدستور، وسياقات الديمقراطية، فقد طلب إليه البرازيليون أن يكمل فترة ثالثة، لكنه فضل أن يحتفظ البرازيليون بذكريات جميلة عن فترتي حكمه، من أن يحكم للمرة الثالثة، وفضل كذلك ترفيع ودعم ومساندة «ديلما روسيف» لتصل إلى مقعد الرئاسة.
ها هي «ديلما روسيف» تعود مرة جديدة لتقود البلاد بعد تحد قوي واجهت فيه مواطنها «أيسو نيفيز»، وعندها أنها تريد أن تكون رئيسة أفضل مما كانت عليه».. ماذا تعني تلك الكلمات؟
تصف صحيفة الجارديان البريطانية الشهيرة كلمة رئيسة البرازيل بأنها «نغمة تصالحية»، لاسيما وأن فارق الأصوات بينها وبين منافسها ضئيل جداً، ولهذا ففي خطاب النصر قالت «روسيف» بابتهاج أنها تأمل أن تتوحد الأمة معا، بدلا من زيادة الخلافات وتوسعة الفجوات، وأضافت.. أسعى بشدة لتهيئة الظروف للتوحد.. هل من مشهد ديمقراطي إنساني حقيقي في فوز ديلما روسيف؟
ربما كانت المكالمة الهاتفية التى أجراها «نيفيز» بروسيف، للتعبير عن احترامه لها وتقديره لدورها الوطني، وكفاحها من أجل فقراء البرازيل.. ما الذي ضمن الفوز لديلما روسيف ومن قبلها داسيلفا؟
جاء هذا الفوز بمثابة استمرار لسيطرة حزب العمال والأحزاب اليسارية على المناصب العليا في البرازيل، ولم تكن هذه السيطرة لتستمر لولا أن الحزب التزم التزاما جديا بمعالجة قضايا عدم المساواة في المجتمع البرازيلي، ولولا أن «روسيف» ذاتها فعلت الكثير للفقراء والمعدمين، كما أن حكومتها ماضية قدما في ذات المسار.
مثيرة جدا السيرة الذاتية لـ «روسيف» أنها مسيرة من الكفاح والصمود، من التحدي والثقة، من التضحية البناءة، من أجل وطن يستحق الأفضل على الدوام.
«ديلما روسيف» هي ابنة لمهاجر بلغاري، ولدت في مدينة «بيلو هوريزونتي» البرازيلية، التحقت بصفوف أقصى اليسار وناضلت ضد سياسة القمع التي انتهجها الحكم الاستبدادي السابق في البرازيل، أمضت ثلاث سنوات من حياتها في السجن، واستعادت حريتها سنة 1972، ودرست الاقتصاد وهي في حزب العمَّال، وأيدت التيار المعتدل فيه، ثم عينها الرئيس «دا سيلفا» وزيرة الطاقة، وفي 2005 كلفها بتشكيل الحكومة بعد استقالة عدد من أصحاب الأسماء الكبرى بسبب فضيحة فساد هزت البلاد.
هل كان الفقراء هم طريق «روسيف» من جديد للمقعد الرئاسي؟
المؤكد أن السبب الرئيسي وراء استمرار الدعم القوي لروسيف، في مناطق الشمال والشمال الشرقي الفقيرة، أن تلك المناطق كان لها نصيب الأسد من الاستفادة من مشاريع التنمية الحكومية وبها نسبة كبيرة من الناخبين المستفيدين من برنامج الحد من الفقر، وهو برنامج حكومي يغطي ما يقرب من ربع السكان، بينما فقدت «روسيف» الكثير من الناخبين في المناطق الجنوبية الشرقية، حيث السكان الأكثر ثراء في «ساوباولو» و«ريو دي جانيرو» ويرجع ذلك للإحباط الذي أصاب الطبقة المتوسطة من الأوضاع الاقتصادية المختصرة وفضائح الفساد.
وفي مثل هذا إطار، كان لابد لأثرياء البرازيل أن يعملوا في اتجاه مضاد لـ «ديلما روسيف» أولئك المعارضون للسياسات الاقتصادية الموجهة التى تشمل التحكم في أسعار الوقود وزيادة الضرائب، دعموا منافسها «نيفيز» الذي يعتبرونه ميالا لدعم شركات الأعمال، ويوصف «نيفيز» في أسواق المال بأنه الشخصية القادرة على إعادة الاقتصاد إلى المسار بعد أربع سنوات، من بطء معدلات النمو، في بلد تعاني الآن ركودا اقتصاديا، من الناحية الفنية، وجاءت في المرتبة الثالثة للانتخابات المرشحة «مارينا سيلفا» الحقوقية في مجال البيئة.
ما الذي وعدت به «ديلما روسيف» البرازيليين لتحسين ظروف حياتهم؟
يتذكر القارئ، أن هناك احتجاجات واسعة جرت في يونيو 2013، كان رفع أسعار تذاكر النقل العام شرارتها، وفي 20 يونيو نزل إلى الشوارع نحو 800 ألف متظاهر.
غير أن «ديلما روسيف» وفي أول خطاب لها تعهدت باستكمال ما حققته حكومتها في الحد من عدم المساواة، واستعرضت عدداً من نجاحات حكومتها إذ أنه على مدى 12 عاما من حكم حزب العمال انتقل 40 مليون شخص أي خمس السكان خارج نطاق الفقر.
ولا تزال الفجوة بين الأغنياء والفقراء واحدة من أعلى المعدلات في العالم. لكن في نفس الوقت، إن معدل عدم المساواة انخفض من 0.56 في عام 2001 إلى 0.49، وفقا لمعيار جيني، وبنفس القدر انخفضت معدلات البطالة.
ولعل ما يهمنا في الحديث عن البرازيل وتجربتها، الوجود العربي والإسلامي هناك، ذلك أن تلك الدولة كانت مستقرا للآلاف من المهاجرين الأوائل في نهايات القرن التاسع عشر، لاسيما من دول الشام ومثلث الهلال الخصيب، كما كانت ممرا كذلك للآلاف التي مضت في طريقها إلى دول أخرى في أمريكا اللاتينية، عطفا على عبور الحدود إلى المكسيك، والولايات المتحدة الأمريكية.
هل كانت الجاليات العربية والإسلامية من الأصوات الداعمة لروسيف في معركتها الانتخابية الرئاسية الأخيرة؟
المؤكد أن العرب والمسلمين هناك قد دعموا «روسيف» فبحسب تصريحات رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية «خالد رزق تقي الدين»، فإن الجالية العربية دعمت بقوة «روسيف»… ما السبب في ذلك؟
يبدو أن مواقف دولة البرازيل التى أعلنت أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في يوليو الماضي، والمتعلقة بسحب سفيرها من إسرائيل، تعبيرا منها على الاحتجاج والاستنكار على ما لحق أبناء القطاع جراء الحرب، كان السبب الرئيسي في حصولها على هذا الدعم.
في هذا الإطار يقول «عبد الله صفا» الكاتب البرازيلي الفلسطيني الأصل أن فوز «روسيف» يعزز موقف الدولة من القضية الفلسطينية ونصرة لقضايا الشعوب ودولها التى تطمح للحرية والاستقلال والسيادة والاستقرار.
والمعروف بالفعل أن البرازيل قد سجلت عبر العقد الماضي، مواقف إيجابية ومنحازة إلى قضايا الشعوب وسيادة الدول واستقلالها خاصة في مواقفها تجاه الصراع الدائر بالشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، وظهرت واضحة أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة من قبل الكيان الإسرائيلي.
كما كان للبرازيل دور إيجابي بمجلس الأمن والمؤسسات الدولية تجاه القضية الفلسطينية، والصراع الدائر بالشرق الأوسط، ودول المنطقة، وكان اعتراف البرازيل بالدولة الفلسطينية إيجابيا ليشمل باقي دول القارة اللاتينية التي سارعت إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ويمثل الوجود العربي في البرازيل 12 مليونا من إجمالي عدد سكان البرازيل البالغ 200.4 مليون نسمة (بحسب إحصاء البنك الدولي في 2013) بينهم نحو 1.5 مليون مسلم، ويمثلهم 80 مؤسسة ومركزاً إسلاميا، ولهم أكثر من 120 مسجداً ومصلى يعمل بها 60 شيخاً وداعية.
هل العرب والمسلمون في البرازيل ضيوف عابرون أم مواطنون أصليون لهم دور فاعل في نهضة البرازيل وزخمها بالتجارب الإنسانية والحياتية النافعة والمفيدة؟
يؤكد نائب رئيس البرازيل «ميشيل تامر» أن العرب وفي القلب منهم المسلمون، جزء من النسيج الوطني لبلاده، وقد جاءت تلك التصريحات خلال احتفالية نظمها اتحاد المؤسسات الإسلامية في البرازيل، بمناسبة تعيين رئيس المحكمة الفيدرالية العليا للجمهورية البرازيلية، «ريكاردو لوندوفسكي»، وحضرها رؤساء المحاكم، وسفراء لدول عربية وأجنبية، وبرلمانيون برازيليون، ووجهاء الجالية العربية والإسلامية من مختلف الولايات البرازيلية.
والشاهد أن طموحات الجالية العربية والإسلامية في البرازيل بدأت في التطلع إلى الأعلى، والمشاركة على مستوى سياسي فاعل أكثر، فقد ترشح ثلاثة من المسلمين البرازيليين من أصول عربية في الانتخابات الفيدرالية لبرلمان البرازيل، لكنهم لم يوفقوا في الحصول على أي مقعد بالبرلمان، وقد أرجع عدم توفيق المرشحين الثلاثة إلى ترشح كل منهم على قوائم أحزاب مختلفة، وهو ما شتت جهود الجالية المسلمة في دعم أي منهم، وكانت قيادات الجالية حذرتهم في اجتماع سابق من هذه الخطوة، وطلبت منهم أن يختاروا أحدهم حتى تتركز قوة الدعم بالنسبة للجالية، ولكن هذا لم يحدث فتفرقت الأصوات بينهم.
على أن حضور هذه الجالية، يمكن أن يكون في واقع الأمر جسرا وقنطرة بين تلك الدولة الكبرى، بتجربتها الناجحة، وبين العالم العربي، ذلك أن أثني عشر مليون عربي هناك أو من أصول عربية يمثل كل منهم سفيراً لدولة عربية في الموقع والموضع الذي يشغله في البرازيل.
يلفت الانتباه كذلك أن البرازيل لديها خطة عالمية طموحة جداً للخروج خارج الإطار الجغرافي الخاص بها، فها هي تمضي ناحية القارتين الأفريقية والآسيوية من أجل تعزيز حضورها الاقتصادي، وتعمل كأداة من ضمن أدوات البريكس، في مواجهة الهيمنة المالية والاقتصادية الأمريكية، حول العالم، بعد أن استطاعت مواجهة واشنطن، التي تتجسس على البرازيل لمنع نموها الاقتصادي والسياسي والعسكري في القارة اللاتينية من جهة، وحول العالم من جهة أخرى.
يلفت النظر في تجربة «ديلما روسيف» لاسيما بعد فوزها الأخير بفترة رئاسية ثانية، لغتها التي تجمع ولا تفرق، والتي تشرح ولا تجرح، إذ فور إعلان فوزها قالت «كلماتي الأولى هي دعوة إلى السلام والوحدة»، ومضيفة «هذه الرئيسة في كناية عن نفسها مستعدة للحوار، وسيكون التزامي الأول في هذه الولاية الثانية، ومؤكدة التزامها تعزيز الإصلاح السياسي» ومحاربة الفساد.
هل من مفأجاة قادمة في البرازيل في أعقاب انتهاء ولاية «روسيف الثانية» يبدو أن تجربة بوتين وميدفيديف سوف تتكرر في البرازيل، إذ تشير توقعات عديدة إلى أن «أنيا سو لولا داسيلفا»، ربما سيترشح من جديد في انتخابات الرئاسة البرازيلية 2018، إذ لن يسمح لـ «روسيف» بالترشح لفترة رئاسية ثالثة…
وفي كل الأحوال يبدو أن حزب العمّال البرازيلي سوف يمضي قدما لإكمال مسيرة إنهاض البرازيل لتغدو دولة رائدة لها أهمية في الأمريكتين ضد الإمبريالية العالمية، والرأسمالية المتوحشة، الساعية لسحق الشعوب المكافحة حول الكرة الأرضية.