أوروبا ما بعد الصدمة..

جمال إمام -

gamalemm@gmail.com -

توجهات الأحزاب اليمينية المتطرفة الفائزة في الانتخابات الأخيرة على حساب الأحزاب الاشتراكية بشأن مستقبل ليس فقط حلم الاتحاد الأوروبي.. ولكن بالنسبة للسياسات القادمة وما إذا كان فوز هذه الأحزاب في سبع بلدان أوروبية منها فرنسا (قلب مفاعل الوحدة الأوروبية) يمهد لقدوم الفاشية وإمكانية وصولها للسلطة..

وبالتالي زيادة المخاوف من حدة الاستقطاب والذي يمكن أن تكون عليه أوروبا على المدى البعيد وتأثير ذلك على الأمن والاستقرار الدوليين..

في إشارة لا يمكن إغفالها لحقبة شهدت مداً متطرفاً نازياً فاشياً دفعت أوروبا ثمنه مرتين خلال الحربين العالميتين..

والواقع أن الأسئلة كثيرة إزاء ما حدث في أوروبا في صيف 2014 وشكل الخارطة والتحالفات الجديدة التي يمكن أن يكون عليها البرلمان الأوروبي القادم..

كما أن الإشارات أيضاً كثيرة بشأن الانتخابات ونتائجها المدوية..

ما الذي ينبغي أن نركز عليه في معرض الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها من الإشارات..


في النقطة الأولى..


جاء فوز الأحزاب اليمينية (القادمون من الظل) بمثابة رسالة قوية بعث بها الناخبون الأوربيون وهي أن هناك «مزيجا من الاستمرارية والتغيير» عبر عنه هذا الصعود الملفت ولأول مرة لأحزاب من أقصى اليمين لكن دون السماح بانهيار للتركيبة السياسية داخل البرلمان الأوروبي..

تؤكده هذه النظرة على مجمل نتائج هذه الانتخابات والأوزان السياسية التي حققتها الأحزاب الفائزة والتي ستشكل البرلمان الأوروبي والتي تبين أن التيارات التقليدية مازالت تحافظ على الأغلبية في البرلمان على هذا النحو..

في فرنسا فاز اليمين المتطرف بنسبة 25 في المائة من المقاعد في حين حصل حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية على 21 في المائة وحل ثالثا حزب الاشتراكيين بزعامة الرئيس الفرنسي فرانسو هولاند بنسبة 14 في المائة، وهي أقل نسبة على الإطلاق ضمن النتائج..

في بريطانيا تصدر حزب الاستقلال البريطاني المعارض للانضمام للاتحاد الأوروبي المركز الأول بنسبة 27 في المائة يليه في الترتيب حزب العمال بنسبة 25 في المائة وحزب المحافظين بنسبة 24 في المائة..

في ألمانيا فازت أنجيلا ميركل وحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي على نسبة 35 في المائة، في حين حصل الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني على نسبة 27 في المائة..

في اليونان حقق حزب (سيريزا) أقصى اليسار فوزا مستحقا بنسبة 26% كما حصل حزب الديمقراطية الجديد بزعامة رئيس الوزراء أنتونيس ساماراس على 23% أما حزب الفجر الذهبي أقصى اليمين فحل في المرتبة الثالثة بنسبة 9 في المائة..

في إيطاليا سجل رئيس الوزراء الإيطالي يسار الوسط ماتيو رينزي نتائج قوية بنسبة 40 في المائة متفوقا على حزب «حركة خمس نجوم» المعارض بزعامة بيبي غريلوا الذي حصل على 21 في المائة في حين حصل حزب «فورتسا إيطاليا» بزعامة سيلفيو بيرلسكوني على 17 في المائة..


في النقطة الثانية..


ماذا تعني هذه الخارطة السياسية الجديدة..

هي تعني لي كمراقب أن التكتلات المعارضة للانضمام للاتحاد الأوروبي وأحزاب أقصى اليمين حققت تقدما عن نتائجها السابقة (هناك صعود) في انتخابات البرلمان الأوروبي دفعت رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس إلى وصف نتيجتها بأنها «زلزال سياسي»..

حيث خسر حزب الاشتراكيين بزعامة الرئيس الفرنسي فرانسو هولاند الانتخابات وحقق تراجعاً غير مسبوق لصالح حزب الجبهة الوطنية الفرنسية الذي قدم أداءً قوياً

عبرت عنه مارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية بأن « صوت الناس كان عالياً وواضحاً.»!!

كما خسر الانتخابات أيضا حزب العمال البريطاني (يسار الوسط) أمام حزب الاستقلال البريطاني (أحد الأحزاب الشعبوية في أوروبا والمناهض للاتحاد الأوروبي والمؤيد لانسحاب بريطانيا)..

ملحوظة..

هذا الحزب الصاعد بقوة حقق ثاني مفاجأة له من مكاسب كبيرة في الانتخابات البريطانية المحلية (فاز باثنين وأربعين من مقاعد المجالس المحلية) في مؤشر يبرز حجم التهديد الذي يمثله على فرص إعادة انتخاب ديفيد كاميرون في العام 2015 . هذا في الوقت الذي فقدت فيه تكتلات الوسط الثلاثة الكبرى في أوروبا مقاعد على الرغم من استمرار تمتعها بالأغلبية..


في النقطة الثالثة..


ربما جاءت هذه التغييرات السياسية في سابقة غير متوقعة كعقاب شعبي لقادة الاتحاد الأوروبي على سياساتهم الاقتصادية والنقدية التي لم تؤت ثمارها الواقعية لكبح جماح الكساد والأزمة المالية وسياسة التقشف وتراجع النمو الاقتصادي وغيرها من القضايا التي تأرجحت معها سياسات الاتحاد الأوروبي وبدأ يفقد معها قيمته المعنوية والمادية، خصوصا مع ارتفاع الأصوات المطالبة بفض الشراكة الاقتصادية..

والواقع أن أوروبا المصدومة لديها الوقت لتحليل الأسباب التي أدت إلى تغير الحالة المزاجية للناخب الأوروبي الذي جاء تصويته على هذا النحو كتحذير بضرورة إعادة صياغة سياساته وتقييمها خاصة ما يتعلق بالتوسع الذي جرى خلال السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك بضم جمهورياته السابقة إلى عضوية الاتحاد بما ترتب عليه من فتح دول الاتحاد أمام هجرة غير مسبوقة من هذه الدول، ودعم موازناتها وتعويم اقتصادياتها على حساب رخاء مواطني أوروبا الغربية مما أسهم كثيراً في تفاقم الأزمة المالية وتراجع النمو الاقتصادي وغلق سوق العمل أمام وظائف جديدة مما أثر على مستويات المعيشة، وإحداث خلل اجتماعي في المجتمعات الأوروبية نتيجة تدفق المهاجرين من وسط وشرق أوروبا حيث ذهبت نسبة كبيرة من الأصوات لصالح الساسة الذين صرحوا بتعهدات بإغلاق الحدود وإعادة المهاجرين أو حتى تفكيك الاتحاد الأوروبي برمته..


في النقطة الرابعة..


إن نتائج الانتخابات كشفت عن أزمة اليسار والأحزاب الاشتراكية الأوروبية عموماً حيث فشل الاشتراكيون في الاستفادة من الأزمة المالية لتحقيق مكاسب على حساب الأحزاب اليمينية وأنهزم اليسار في عقر داره في فرنسا وفي بريطانيا ولولا الفوز الكاسح لحزب (سيريزا) الذي يمثل أقصى اليسار في اليونان كانت الصورة أكثر قتامة عما عليه بالنسبة لناخبيهم..

حيث باتت أوروبا بعد الضربة الموجعة التي تلقاها الاشتراكيون عند مفترق طرق وأن الاتحاد ربما قد بدأ يفقد قيمته المعنوية والمادية خصوص مع زيادة الأصوات المطالبة بفض الشراكة الاقتصادية، بعد أن تكبدت دول قوية مثل ألمانيا خسائر كبيرة نتيجة أخطاء الآخرين (اليونان وغيرها) الأمر الذي عبر عنه حزب اليمين الفرنسي بقيادة لوبان بقوة وبصوت عال وغير خجول..


في النقطة الأخيرة..


إن الفصل الأخير من نتائج الانتخابات لم يكتب بعد ونقصد به معركة رئاسة المفوضية الأوروبية الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي وهي معركة قد تحمل في طياتها انقساماً أوروبياً جديداً..

فقد جددت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركلا تأييدها لأن يصبح جان كلود يونكر الرئيس القادم للمفوضية الأوروبية بعد الاجتماع في السويد مع زعماء الاتحاد الأوروبي الذين ينتقدون اختياره بل ويذهب بعضهم (بريطانيا) تحديداً إلى حد تهديد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء على استمرار بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي والذي يعارض بشدة منع ترشيح رئيس وزراء لوكسمبورج السابق للمنصب على اعتبار سياساته اليمينية المناهضة وأنه يجب اختيار شخص أكثر انفتاحاً على إصلاح الاتحاد الأوروبي وتقليل سلطات بروكسل فيما يعكس التصويت الاحتجاجي واسع النطاق في انتخابات الاتحاد الأوروبي..

أوربا منقسمة وتبحث عن إصلاحات جديدة وهيكلة مؤسسات الاتحاد الأوروبي وآليات مختلفة في صناعة القرار وتبحث أيضا عن دور جديد لها في النظام الدولي وتحاول أن تنتقل بمشروعها الاقتصادي مرحلة الانقسامات من أجل الهوية الأوروبية ومن أجل أوروبا القارة العجوز التي يراها كثيرون أنها باتت أكثر ترهلا ويريدون إزالة التجاعيد عن وجهها..