عبدالرزاق الربيعي -
اعتدت، سنويّا، المكوث في «مسقط» خلال شهر رمضان المبارك، وقد يصل الأمر إلى ملازمة البيت، باستثناء خروجي للعمل، والضروري من الالتزامات الاجتماعيّة، معتذرا عن الكثير من الدعوات، التي تصلني من أصدقاء، ومعارف، ومحبّين، خارجها، للمشاركة في أنشطة رمضانيّة، والسبب في ذلك إنّني أعتبر هذا الشهر الفضّيل مناسبة سنويّة لمراجعة النفس، وتأثيثها بالروحانيّات، والاستغراق في التأمّل، ومراجعة الذات، إذ الامتناع عن تناول الطعام لساعات طويلة من النهار في الاتجاه إلى الروح، فدأب المتصوفة على الإكثار من الصيام، والقيام والإقلال من الطعام على مدى شهور السنة، للقرب من الروح، وتجاوز الجسد، ورغباته.
وبالتأكيد يشاركني هذا الشعور الكثير من الصائمين، فتقلّ خلال ساعات النهار المشاوير الخارجيّة، والفعاليات، وتبعا لانكماش تلك الأنشطة تتاح فرصة أوسع للخلود إلى النفس، والتواصل مع ذوي الرحم، وأصدقاء مقربين، والأهم من كلّ هذا تكون فرصة لقراءة القرآن الكريم كون الصائم يكون في حالة عبادة، فتصوم جوارحه عن السيئات، وتصفو نفسه، فيتدبّر كلام الله تعالى ويبحر في معانيه، ويكثر من الدعاء، يقول تعالى «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون» (البقرة:186)، ومع حلول شهر رمضان في فصل الصيف متزامنا مع حرارته وتمتّع الكثيرين بالاجازة السنوية، بخاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، يحلو للبعض السفر، في رمضان، ، فيضيّعون على أنفسهم الفرصة الذهبيّة التي يتيحها هذا الشهر لتغيير العادات اليوميّة، والاقتراب أكثر من الروح، والتزود بالطاعات وصلة الأرحام، ومعايشة أجواء رمضان في بلادهم، والاقتراب من تراثهم، فالمسافر دائما يتزود لرحلته، والله تعالى يقول في كتابه «وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب)البقرة:197» وهذه التقوى تكون نتيجة لعمل الصالحات، والدعوات والزهد، وبالاحسان إلى الآخرين، ومساعدة الفقراء، والمحتاجين والفوز بالنفحات الإلهية، التي تهبّ على النفوس من فيض رحمته، كما جاء في الحديث «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَات، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدكُمْ أَنْ يُصِيبه مِنها نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا».دارت في رأسي هذه الخواطر وأنا أصغي لصديق اعتاد تمضية رمضان خارج الحدود على طريقة الإعرابي الذي حين استيقظ ذات يوم طالبا القهوة والتمر، فقالت الجارية «ويحك ألا تدرك أن اليوم هو أول أيام شهر رمضان المبارك؟ فلوى شفتيه، وتمتم «لأقطعنّه بالأسفار»، وقد فوجئت عندما أقلع عن عادته السنويّة، هذا العام، وحين سألته عن ذلك أجاب « لايوجد أجمل من رمضان في دولنا العربيّة، ففي الغرب يعاني الصائم كثيرا، لأنّ طبيعة الحياة هناك مختلفة عمّا هي عليه في بلداننا العربية، فيتعب الصائم كثيرا، ناهيك عن تأخر غروب الشمس، والأكثر من ذلك افتقاد المسافر لجلسات الأهل والأصدقاء»
ورغم أن هذا البعض يقضي مافاته من رمضان، إذا أفطر تلك الأيام، امتثالا لقوله تعالى»وعدة من أيام أخر» لكن ينسى أنه لن يستطيع تعويض مافات من أجواء روحانيّة، وعلاقات اجتماعية تجدّد دماءها، وأواصرها، في هذا الشهر المبارك الذي له خصوصيّة لدى الله تعالى، والناس، فتميّز عن بقيّة الشهور، فـ»لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنّت أمّتي أن تكون السنة كلها رمضان « كما جاء في حديث من أحاديث الرغائب.
واليوم ونحن ندخل العشر الأواخر من الشهر الفضيل نتمنى من الله أن يعيده علينا ونحن نرفل بالخير، لنعيش أجواءه الروحانيّة، بين أهلنا، ناهلين من فيض رحمته، ولا يشغلنا عنها سفر ولو كان اضطراريّا.


