عبد الله بن علي العليان -
طرح أحد الكتاب منذ فترة في مقالة له عن مسألة المشكلات الفكرية، والتوترات العرقية والمذهبية في بعض دولنا العربية، أن السبب الرئيسي له هو الفشل في كيفية التعامل مع التنوع الثقافي والديني والمذهبي والعرقي، ورد هذا الكاتب كل الأخطاء في واقعنا إلى ما أسماه «البحث عن الخطيئة الأولى» وهي الفشل في التعاطي مع مسألة التنوع مستنكرًا رد كل الظروف في راهننا الحالي للمؤامرات والاستعمار أو البعد عن الأصالة والتقاليد والثوابت الإسلامية الخ. ولكنه اعتبر أن بعض هذه الأشياء قد تكون عاملاً في بعض ظروف هذه المشكلات، إلا أن الخطيئة الأولى حسب قوله ترتهن إلى قضية تغييب التنوع الثقافي والديني، ولا شك أن التنوع الثقافي قيمة عظيمة في الحضارات الإنسانية باعتباره صيغة للتعايش والتواصل الحضاري الإنساني من خلال القبول العام بالتعددية الثقافية، سواءً داخل الحضارة الواحدة، أو مع غيرها من الحضارات والثقافات الأخرى، ولذلك يمكننا أن نعتبر بحق بحسب د. عبد الغني عماد أن «التنوع ميزة الإنسان على الأرض دون سواه، وهو ليس للإنسان فقط، بل سمح لكل مجموعة بشرية أن تعلم وتتعلم من الأخرى ضمن ديناميكية التبادل الثقافي. من هنا يعتبر بعض علماء الاجتماع أن المجتمعات الأكثر تنوعًا، هي الأكثر تقدمًا. فالتنوع مصدر غنى ثقافي وحضاري واقتصادي واتصالي»، أما مصطلح التعددية الثقافية (Cultural Pluralism) فهو يطلق على بعض المجتمعات التي تتعايش فيها الحضارات بأكثر من ثقافة ضمن الحضارة الواحدة.
حيث إن بعض «علماء الاجتماع يعتبرون كلمة ثقافة هي مرادف لكلمة حضارة، فالكلام ينزلق بسهولة من التعددية الثقافية إلى التعددية الحضارية. لكن المسألة ليست بهذه السهولة، والخلط المتسرع بين المفاهيم يؤدي إلى الالتباس. فالتعددية الثقافية قد تقوم على أساس الفارق اللغوي (كما في سويسرا مثلاً) حيث التنافر الثقافي قائم على اللغة، كما يمكن أن تقوم التعددية على عنصر العرق، كما في جنوب إفريقيا حيث ثقافة البيض الآتية من الغرب هي غير ثقافة السود ذات الجذور الزنجية والآتية من عمق التجربة الإفريقية.
أما مصطلح النسبية الثقافية (Relativism cultural) الذي تستخدمه بعض المدارس الغربية، فإنه يعني أن كل حدث ثقافي وكل إنتاج إنساني مدين للمحيط الذي نشأ فيه والثقافة التي انبعث منها. وهو مصطلح استخدم بكثافة في إطار المدرسة الثقافية الأمريكية التي حاربت ودحضت الأفكار الاستعمارية والاثنوسنترية (مركزية العرق الأبيض بالنسبة إلى باقي الأعراق).
كما أن التنوع يعد حقيقة سسيولوجية قائمة في الفكر الإنساني سواءً كان هذا التنوع ضمن الحضارة الواحدة أو الحضارات المتعددة. ولذلك فإن قيم المجتمع نفسه تنظر إلى ثقافات الآخرين تلك النظرة المتسامحة بعيدًا عن الإقصاء والنبذ والكراهية.
ولا يعني أن القبول بالتنوع والتعدد الثقافي سواء داخل الحضارة الواحدة، أو مع غيرها من الحضارات الأخرى التقاطع مع «الانتماء الوطني كما يشير محمد محفوظ حيث يسعى «كل تنوع إلى الانفتاح على الدائرة المنسجمة معه تاريخيا وفكريا، حتى لو كانت خارج الوطني. وبالتالي من الضروري التمييز بين الانتماء والانفتاح». إن انتماء الدوائر الاجتماعية هو إلى الإطار الوطني، والقيم الوطنية التي تحفظ العيش المشترك والوحدة الوطنية. وهذا لا يناقض بأي شكل من أشكال انفتاح هذه الدوائر مع الخارج، فالانتماء إلى الوطن ضرورة وطنية ومصيرية، كما أن الانفتاح على الخارج ضرورة مجتمعية.
وإذا عرجنا تاريخيًّا في فضاء الحضارة الإسلامية، وكيف تعاملت مع التعدد والتنوع في الدولة الإسلامية، فسنجد أن المسلمين عندما شيدوا هذه الحضارة، عملوا على وحدة قائمة على التنوع والقبول به باعتباره من سنن الفطرة الإنسانية. والدين الإسلامي اعتبر هذا التنوع والتعدد خلقة إلهية و«سنة أزلية أبدية» قد فطر الله عليها جميع المخلوقات. فلم ولن يكون الناس نمطًا واحدًا أو قالبًا فردًا، وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).(.هود 118,119]
وإذا كانت الإنسانية والبشرية قد بدأت بآدم وحواء أمة واحدة، في الدين والشريعة فإن تحول هذه الأمة الواحدة إلى أمم قد اقتضى التعددية في شرائع الرسل بتعدد أمم الرسالات، فكانت سنة التعددية منذ فجر تاريخ الإنسان.. (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة: 213) (15) وهذا الاختلاف والتنوع والتعدد في الفكر والثقافة جاء لحكمة ربانية بالغة الدلالة، لأن هذا التنوع والتعدد في الثقافة والميول والاتجاهات يعد دافعًا «للتنافس والتدافع والاستباق، انتصارًا من كل فريق لما به يتميزون، وما فيه يختلفون عن الآخرين.. ولو لم تكن هذه التعددية وهذا التنوع والاختلاف لما كانت حوافز الاستباق ودواعي التدافع وأسباب التنافس بين الأفراد والأمم والأفكار والفلسفات والحضارات، ولكانت الحياة سكونًا آسنًا، ومواتًا لا حيوية فيها، ولما استطاع الإنسان تحقيق مقاصد الأمانة التي حملها بالاستخلاف لاستعمار الأرض وعمران هذا الوجود.. فالإيمان بالتنوع والتميز والاختلاف هو الحافز على الإبداع والتدافع في ميادين التقدم والعمران والارتقاء.. بينما الاعتقاد بوحدة النموذج الفكري والحضاري هو باب التقليد والتشبه، ومن ثم السكون، وذبول ملكات الإبداع.
وهذه سنة طبيعية في البشر أن يتباين الناس في رؤاهم الثقافية والفكرية والسلوكية. وهذا الاختلاف نتيجة لتعدد الأفهام والمدارك والعقليات، والبيئة الفكرية والثقافية التي تعيش فيها الأمم والشعوب، وتستقي منها معارفها ومعطياتها وتراكم خبراتها الإنسانية. لذلك لا ضير من هذا التعدد والتنوع الثقافي سواءً ضمن الحضارة الواحدة أو الحضارات المتعددة، وهذا كما أشرنا عامل من عوامل الإثراء والإبداع والتقدم، الأمر الذي يؤكد كما يقول محمد صادق الحسيني على دلالة «لا لبس فيها، وهي أن إعمار الكون ومنه الأرض وما عليها من رطب ويابس وحي وجامد، لم يكن ليتم كما هو حاصل لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، ذلك أن نتائج أفعالهم وممارساتهم وصنعتهم ومحصولهم لم يكن بالإمكان أن يأتي بمثل هذا التنوع المشهود والتمايز المعروف، ولخلت الأرض وما عليها من كل أشكال التزاحم والتنافس والتعارض الذي نعيشه بكل جوارحنا على امتداد طول حياتنا وعرضها».
ومن هذه المنطلقات فإن الحضارة الإسلامية اعترفت بهذا التنوع وأعطته المساحة الواسعة من التحرك والانطلاقة إلى آفاق رحبة ومتقدمة للتبادل مع الثقافات والحضارات الأخرى، ولذلك فإن الحضارة الإسلامية شجعت على التفاعل مع الثقافات والحضارات جميعًا. وإذا نظرنا إلى الإسلام من حيث مبادئه وتعاليمه الأصلية، نجد أنه هو أرقى الأديان في تحقيق مبدأ التسامح الذي هو القاعدة الأولى للتفاعل الحضاري.
وهذا في حد ذاته اعتراف بالآخر والقبول بالتنوع الثقافي والتعدد الفكري والديني. وقد يعتقد البعض أن التنوع والتعدد مدعاة للاختلاف والتنازع والاحتراب، لأن هذا التعدد كما يعتقدون يعني التباين، ويربطون بين هذه الفكرة الخاطئة، وبين ما يحصل في بعض البلدان من مشكلات إثنية وعرقية ومذهبية. وهذا في اعتقادنا من التصورات الخاطئة لمفهوم التنوع والتعدد، حيث إن هذا التنازع كان لأسباب ومسببات أخرى مختلفة، كالاحتقانات السياسية والقمع والإقصاء الخ، لكن التنوع الثقافي لا يعني «التنافر الإنساني المطلق، ولا يعني النفي الوجودي المتبادل، وإنما يعني أنه مع الإيمان بضرورة التعدد والتنوع ضمانًا للحركة، فإن ثمة ضرورة للفهم العقلاني لتأكيد تكامل عنصر أو عامل التكافل الإنساني الأشمل، ووحدة الجوهر الإنساني… إن التباين ليس عامل هدم، بل حافز حركة قائمة على التفاعل في إطار فهم عقلاني ووحدة إنسانية… ومن ثم يكون ضروريًّا أن ندقق النظر في كيفية ترابط الناس بعضهم ببعض داخل مجتمع ما. ولذلك نحن نعتقد التنوع والتعدد سبق إليه الإسلام والحضارة الإسلامية من قرون خلت، ولم يكن فكرة التنوع والتعدد جاءت من الغرب الديموقراطي الليبرالي.
والإشكالية أن الكاتب يتهرب من الغوص في المشكلات العرقية والمذهبية والاستعمار، ويتناسى أن هذه المشكلات جلها إن لم يكن أغلبها من صنع الاستعمار والاحتلال والاحتقان السياسي والبعد عن الديمقراطية الحقة.. صحيح أن بعض النخب السياسية أخطأت في كيفية التعامل مع هذه المشكلات، وقللت من أهميتها حتى استفحلت، وأصبحت أوراقا في يد من هم يودون أن تشتعل المنطقة العربية وتتحول إلى كيانات وكانتونات وأعراق ليس لها انتماء أو لون أو طعم والمستفيد الأكبر معروف ويشار إليه بالبنان.. ولله في خلقه شؤون.