توازن إسلامي: حق الدفاع عن الحياة الإنسانية

دعت الشريعة الإسلامية إلى مشروعية حق الدفاع عن الحياة الإنسانية واعتباره واجبا مقدسا واعتبرته حقا إنسانيا طبيعيا لم تفرق فيه بين مسلم وغيره، وذلك فيما أطلق عليه الفقه الإسلامي اصطلاح دفع الصائل.

يوضح الدكتور سعد الدين مسعد هلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر في كتابه “حقوق الإنسان في الإسلام” :الصيال في اللغة : الاستطالة والوثوب والاستعلاء على الغير، وهو مصدر : صال يصول إذا قدم بجرأة وقوة، وصال عليه أي :سطا عليه، ليقهره، والصائل : الظالم.

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للصيال عن معناه في اللغة، فهو الاستطالة والوثوب على الغير بغير حق، سواء كان الصائل إنسانا أو حيوانا، وسواء كان الإنسان الصائل مسلما أو غير مسلم، مكلفا أو غير مكلف، وسواء كان المصول عليه مسلما أو غير مسلم، وسواء قصد الصائل نفس المصول عليه أو عرضه أو ماله. هذا، ولا خلاف في الفقه الإسلامي على مشروعية دفع الصائل على النفس وما دونها بضوابط خاصة، أهمها : أن يقع الدفع حال الاعتداء، فإن زالت تلك الحال فلا يكون الدفع لغير الحاكم، كما يشترط أن يتم الدفع بالأخف فالذي يليه في الشدة إن أمكن ،فإن أمكنه الدفع بكلام أو استغاثة بالناس حرم الضرب، وإن أمكنه الدفع بضرب اليد حرم الضرب بالسوط، وإن أمكنه الدفع بقطع طرف حرم القتل، لأن ذلك شرع للضرورة، ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأخف.

كما ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من ضوابط دفع الصائل: عدم تمكن المصول عليه من الهرب أو الالتجاء إلى حصن أو الاحتماء بحاكم، وذلك لإمكانه الدفاع عن نفسه دون إضراره غيره، ولعدم جواز العدول إلى أشد الوسائل مع إمكان أيسرها .

والأصل في مشروعية دفع الصائل آيات كثيرة منها قوله تعالى :{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} سورة النساء الآية:29. وقوله سبحانه :{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } سورة البقرة الآية:195.وفي عدم دفع الصائل قتل للنفس وإهلاك لها.

كما يدل من السنة أحاديث كثيرة منها ما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين،قال : قاتل يعلى بن منية- أو ابن أمية- رجلا فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته- وفي رواية: ثنيتيه- فاحتجا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال:”أيعض أحدكم كما يعض الفحل لا دية له “صحيح مسلم .وفي رواية :فرفع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأبطله وقال :” أردت أن تأكل لحمه” .

ومع اتفاق الفقهاء على مشروعية دفع الصائل في الجملة إلا أنهم اختلفوا في صفة تلك المشروعية إذا وقع الصيال على النفس وما دونها ، كما اختلفوا فى ثبوت تلك المشروعية إذا وقع الصيال على نفس الغير.

أولا، صفة مشروعية دفع الصائل على النفس وما دونها : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن مشروعية دفع الصائل على النفس وما دونها إنما هي على سبيل الوجوب. وذهب الشافعية في القول الأظهر إلى وجوب دفع الصائل إلا أن يكون مسلما غير مهدر الدم فيجوز دفعه ولا يجب، استدلالا بالسنة والمأثور.

أما دليل السنة فمنه ما أخرجه الشيخان ، من حديث الأحنف بن قيس ، قال : خرجت بسلاحي ليالي الفتنة ، فاستقبلني أبو بكرة فقال :أين تريد؟ قلت :أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار” .قيل : فهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال :” إنه أراد قتل صاحبه “.

وأخرج أحمد والترمذي وحسنه، عن سعد بن أبي وقاص، قال :أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي” قال :فرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده إلي ليقتلني ؟قال :” كن كابن آدم”.يعنى هابيل. سنن الترمذي.

وأما دليل المأثور :فما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ترك القتال على من بغى عليه مع القدرة عليه، ومع علمه بأنهم يريدون نفسه، ومنع حراسه من الدفاع عنه، وقال:” من ألقى سلاحه فهو حر” . وصبر على ذلك، واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليه أحد.

وأجاب الجمهور على أدلة الاستسلام للصائل بأجوبة كثيرة، منها :

1- حديث الأحنف “إذا تواجه المسلمان” خاص بحال الاعتداء من كل منهما، وذلك للجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي وردت آمرة بالدفاع عن النفس من الاعتداء.

2- حديث سعد بن أبي وقاص”كن كابن آدم” قال عنه الصنعاني: ” أخرج من طرق كثيرة وفيها كلها راو لم يسم، وهو رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم”. وعلى التسليم بصحة الحديث فهو وارد في الفتن الدينية القائمة على التأويل بهدف إخمادها . وقيل :إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث تكون المقاتلة لطلب الملك، وليس معنى ذلك عدم مشروعية الدفاع عن النفس فى الفتن.

3- أن عثمان رضي الله عنه اجتهد فرأى بحكمته أن فى وضع السيوف إخمادا للفتنة ،فظن أن البغاة سيهدأون، وإلا فإن قتال الباغي لا يجهل عثمان مشروعيته في كتاب الله:{ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } سورة الحجرات الآية :9. هذا وقد استدل الجمهور على مشروعية دفع الصائل بالكتاب والسنة والمعقول: أولا، أما دليل الكتاب فمنه قوله تعالى :{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } سورة البقرة الآية:195. والاستسلام للصائل نوع من إلقاء النفس للهلاك،فكان الدفاع عنها واجبا. ثانيا، وأما دليل السنة فمنه ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، من حديث سعيد بن زيد،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد”.ثالثا، وأما دليل المعقول فهو أنه كما يحرم على المصول عليه قتل نفسه يحرم عليه إباحة قتلها، ولأنه قدر على إحياء نفسه بقتل الصائل فكان كالمضطر لأكل الميتة ونحوها. ومما سبق يتضح رجحان ما ذهب إليه الجمهور من وجوب دفع الصائل، إنقاذا للنفس، لقوة أدلتهم. ولأن نفس الصائل ليست أولى بالحياة من نفس المصول عليه . أما عن مشروعية دفع الصائل على نفس الغير ، فذهب بعض الشافعية في وجه عندهم إلى أن مشروعية دفع الصائل خاصة بحال الدفاع عن النفس، فلا يجور الدفاع عن نفس الغير،لأن شهر السلاح يحرك الفتن، وخاصة في حال نصرة الآخرين. وليس الدفاع عن الغير من شأن آحاد الناس، وإنما هو وظيفة الحاكم ومن ينيبه. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن مشروعية دفع الصائل لا تختلف في حال الدفاع عن النفس أو الدفاع عن نفس الغير المعصومة مسلمة أو غير مسلمة.

واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول:

1- أما دليل الكتاب فمنه قوله تعالى :{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} سورة المائدة الآية:2.وفى الدفاع عن نفس غير البريئة أكبر التعاون.

2- وأما دليل السنة فمنه ما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن، من حديث سهل ابن حنيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة” . وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” انصر أخاك ظالما أو مظلوما”.قالوا : يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال :” تأخذون فوق يديه” صحيح البخاري. وفي رواية :” تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره”.وأخرج أبو داود من حديث قيلة بنت مخرمة ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان”سنن أبو داود.

3- وأما دليل المعقول فهو أن المسلم له الإيثار بحق نفسه دون غيره، ولأنه لولا التعاون بين الناس فى الحق لذهبت أموال الناس وأنفسهم،لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال إنسان أو نفسه لم يعنه غيره فإنهم يأخذون أموال وأنفس الكل واحدا واحدا.