عبدالله العليان –
alaliyan@gmail.com –
بعد احتلال أفغانستان، ثم العراق خارج الشرعية الدولية، برز وكأنه انقلاب في النظام الدولي رأسا على عقب، وأعيدت حسابات كثيرة، ترى أن هذه الخطوة ربما تعجل بانهيار هذا النظام القائم على المدى البعيد، أو على الأقل عودة التعددية القطبية بنظام دولي جديد وحرب باردة مقبلة تكون أكثر شراسة في وجه الولايات المتحدة وشركائها في هذه الحرب غير الشرعية وغير المبررة.
ولكن بعد الأحداث الأخيرة التي جرت في الشرق الأوسط خاصة الصراعات في العراق وسوريا وظهور جماعات متطرفة، برز وكأن النظام الدولي يستعيد دوره من خلال المنظمة الدولية، فهل هذا مؤشر للفاعلية؟ أم مجرد مصلحة لبعض الدول الكبرى؟ .
ولو رجعنا إلى النظام الدولي القائم الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية لوجدنا انه بعد قيامه انقسم العالم إلى معسكرين متنافسين أبرز سمات هذه المرحلة الصراع على المصالح والمواقع الإستراتيجية وكان السباق على التسلح والتفوق العسكري على أشده بين المعسكرين بالوسائل التكتيكية حينا وبالوسائل الخبيثة حينا آخر !! ولعل إثارة أو تشجيع الحروب الجانبية هي سياسة دائمة وثابتة في هذا الصراع بهدف إيجاد وسائل للاختراق السياسي الذي يهدف بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة أحد الأقطار للآخر دون الوصول إلى مرحلة الصدام الخطير والقبول بسقوف محددة للصراع الذي كان الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، هو الوحيد الخاسر في هذه المرحلة بالنهاية المعروفة ! بعد المتغيرات في المعسكر الشرقي وتوحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي كادت لتؤكد أن (الحرب الباردة) بين القطبين انتهت فعلا وان ( كتلة عدم الانحياز) هي الأخرى انحلت عمليا ليبدأ العالم بالتشكل ضمن مرحلة جديدة ذات سمات مختلفة نوعيا عن المرحلة السابقة من دون سمات هذه المرحلة ونظامها والأسس والقواعد التي تحكمها عدا التصريح الشهير الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج الثانية، بأن (سلطة القانون) لا سلطة الغاب هي التي تحكم هذه الدول في المستقبل « !!
هذه الإشارات من رئيس اكبر دولة في العالم آنذاك، جعلت العالم ينظر نظرة متفائلة . قوة التصريح الذي بشر بنظام عالمي جديد تسوده روح العدل والحق وتحميه قوة القانون الدولي بحيث يصبح أكثر عدلا لحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية والاستقلال.. لكن هذه الآمال سرعان ما تبددت. الصورة مخيفة ! فالصراعات تفاقمت بصورة لم يسبق لها مثيل حتى أن البعض أعرب عن تشاؤمه من عبارة النظام الدولي الجديد واستبدلها « بالظلم العالمي الجديد» إشارة إلى ما يحدث للمسلمين من دون بقية الشعوب من اضطهاد وقتل وتنكيل في ظل هذا الشعار النحس ؟1
كان التوقع أن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الدور الأكبر في طرح هذا الشعار واستغلاله ! أن تقف بحزم لتثبيت هذا النظام وإيجاد الأسس والقواعد العادلة ليكون متسقا مع الدور الجديد الذي هو في الأساس « أحادي القطبية» !
لكن الأمر اتجه إلى ما هو ابعد واخطر في تقويض هذا الشعار وتحجيمه بالصورة المتوقعة له بعد ظهور الدلائل القاطعة انه مجرد تلبيس لأوهام خادعة يكون المستفيد فيها « إسرائيل » في المقام الأول.!
وبدلا من تركيز النظام الدولي على تحقيق العدل وإشاعة التعايش السلمي وتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، فانه افرز ما يسمى اصطلاحا بالحرب الباردة، الذي شاع استخدامه في العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهذه الحرب الباردة عملت على تأسيس نظرية الصراع الدولي، وأنماط القوة في المجتمع الدولي وتوازن الرعب النووي، وسياسة الاحتواء وغيرها من حقائق القوة والصراع في الإستراتيجية الدولية المعاصرة. ولعل اخطر إفرازات الحرب الباردة نظرية « الصراع الدولي » ذلك إن الصراع في تصميمه هو تنازع إرادات بحكم الاختلاف في التوجهات والسياسات. وهذه النظرية التي قسمت العالم إلى معسكرين متصارعين وعملت على استنزاف الاقتصاد للدول الصغيرة وجعلتها أسيرة هذا الصراع لاختبار مدى قوة التوازن الدولي، واختبار الأسلحة التي يتم تصنيعها !
وعندما وصل هنري كيسنجر إلى البيت الأبيض لأول مرة كمستشار للرئيس ريتشارد نيكسون لشؤون الأمن القومي، كان تصوره لطبيعة الصراع البارد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك قد نضج واخذ يرى أن مستقبل التوازن بين العملاقين على هذا المنوال سيكون ضارا بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فعمل على أن تستمر الحرب الباردة، لكن مع تفوق ظاهر للولايات المتحدة، وهيمنة على بقاع مهمة من العالم.أي أن تكون للولايات المتحدة محاور سياسية لصالحها تستطيع أن تحركها في الوقت المناسب لإقلاق الاتحاد السوفييتي.
وكانت الخطوة الأولى لسياسة كيسنجر هي أولا: إخراج الولايات المتحدة من تورطها في فيتنام مع المحافظة على كفة التوازن لصالحها في العالم الآسيوي عبر ايجاد وضع غير مستقر في فيتنام. أما الخطوة الثانية: فهي عزل الاتحاد السوفييتي عالميا عن طريق قطع السبيل أمامه للتحالف مع قوة كبرى تنتمي إلى المعسكر الأيدلوجي نفسه.
هنا بدأت الولايات المتحدة بتطبيق فكرة كيسنجر الجذرية وهي « اللعب على وتر الصراع الصيني – السوفييتي ».
ومع انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم كقوة عظمى بلا منافس اوجد وضعا شديد التعقيد. إذ على اثر انتهاء الاتحاد السوفييتي بتفكك دوله، وقيام الحرب الأهلية في البلقان وفي غيرها انكشفت عيوب النظام الدولي ومعاييره ومقاييسه المتناقضة.
فلو عدنا للوراء قليلاً لوجدنا أن كل الأنظمة الدولية التي أقيمت كانت لأسباب الحروب والمغامرات الدولية، وكذلك كل الصيغ التي أوردتها ديباجة هذه القوانين هي شروط ((فرض)) وليس اختياراً مقنعاً، وهذا ما يفسر انهيار الكثير من الأنظمة ففي عام 1815 فرضت الدول الأوروبية المنتصرة نظامها العالمي الذي تمثل بحفظ الاوضاع في أوروبا بعد مغامرات نابليون السياسية التي عصفت بأوروبا آنذاك.
واستنذ ذلك النظام بصورة أساسية إلى (سياسية المؤتمر) بحيث احتفظت الدول الأوروبية الخمس الكبرى بضبط أوروبا ومستعمراتها (بريطانيا، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا) كما استطاعت أن تضبط الإمبراطورية العثمانية أيضاً.
واستمرت (سياسة المؤتمر)حتى تفاقم الخلاف بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا حيث تحول النظام الدولي الجديد إلى سياسة (توازن القوى) وكانت بريطانيا تمثل الجهة الأقوى لحفظ هذا التوازن حتى نشوب الحرب العالمية الأولى ونتيجة لهذه الحرب، كانت (اتفاقية فرساي) و(عصبة الأمم) وبوادر نظام عالمي جديد أفرزته الحرب العالمية الأولى وفرضته الدول المنتصرة فيها.وقد تميز ذلك النظام بتكريس السيادة الأوروبية بتسخير (عصبة الأمم) نفسها لرعاية هذه السيادة وتنظيمها.وعلى الرغم من (اتفاقية بريان/ كيلوج) التي وقعها آنذاك كان المجتمع الدولي (64 دولة) والتي حظرت الحرب بكل أشكالها فإن ذلك لم يمنع نشوب الحرب العالمية الثانية.
ولعل ما يسبب قلق الكثيرين من أعضاء الأسرة الدولية اليوم تجاه التوجه الدولي هو (ازدواجية المواقف) تجاه قضايا ومشكلات العالم بعد انتهاء القطبية الثنائية، وهذا ما يرسخ مفهوم التشكيك في تشكله (النظام الدولي الجديد) ناهيك عن وجوده أصلاً.
وهذا أحد التحديات الجديدة، ذلك أن النظرة الأحادية الجانب للأمن والسلام العالميين، نظرة قاصرة لم تستفد من انهيار النظام الدولي الذي أقيم في أعقاب الحروب الأوروبية، وبعدهما في الحربين الكونيتين.
الآن هناك توقعات أن تستعيد الأمم المتحدة دورها المفقود، وأن تقوم بأدوار هامة في القضايا الدولية، شريطة أن يكون هناك معايير عادلة في تعاطيها مع هذه القضايا بعيدا عن ازدواجية المعايير، والمقاييس المتعددة، وهذا ما يعزز قدرة ومكانة الأمم المتحدة في المستقبل.