صبح البشكنجية أو صبيحة أو أورورا، جارية الخليفة الحكم المستنصر بالله وأم ولديه عبد الرحمن وهشام، والوصية على عرش الخلافة في بداية عهد ابنها الخليفة هشام المؤيد بالله.
بدأت حكايتها عندما كان أحد ملوك الأندلس في عاصمتها قرطبة “الحكم بن عبد الرحمن الناصر” ينصرف بعض الشيء الى هوايتهِ المحببة وهي القراءة والاطلاع ، وفي لحظات انعزالهِ تلك، تتسلل الى داخل المكتبة جارية لتقف عند صيوان يحوي النادر من كتب الادب ثم تتصفح مجلداً بشغفٍ وتختفي، وسرعان ما اثارت اهتمام الملك ودهشته، ومرت الايام ليفاجأ بها ذات يومٍ أمامه عندما دخل كعادتهِ الى قاعة المكتبة ليسألها عما كانت تقرأ فاذا بها تجيبه بأنها كانت تُطالع كتاباً عن شاعر النبوة “حسان بن ثابت” ولم يكد يناقشها في شعر “حسان” حتى كانت اسرع منه واحسن جواباً، واذا به في النهاية يسألها عمن تكون واسمها لتجيبه بأنها جارية من جواري قصره واسمها “صبيحة”.
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في حياة “صبيحة” فقد اصبحت جارية الملك الاثيرة وزاد تعلقه بها بعد ان وضعت ابنه الاول “هشام”، ليقرر الملك بعدها بأنها لم تعد جاريته بل زوجته وشريكته في ملك الاندلس العريق.
ولكون الاندلس محوطة بالدسائس فقد أحست الملكة بأنها قد وُضعت في مكانٍ يجب أن تكون جديرة به وأن تشغله عن مقدرة وتفوق، وعرف لها زوجها أمير المؤمنين فضلها وذكاءها فاعتمد عليها وراح يُراقبها ليرى كيف ستُفلح في ادارة دفة الامور، حتى اذا وثق منها وارتاح الى حسن ادارتها انصرف الى هوايته المحببة.
الكاتب
لم تتدخل “صبيحة” في تصريف شؤون سياسة الدولة المدنية فحسب بل راحت تُشرف على مسيرة الامور الحربية فراحت تُحرك الجيوش من هنا وهناك والى اية جهة توجه الاهتمام بحيث لا تدع بذلك اية فرصة لـ”شارلمان” وامراء الاقطاع ينفذون منها الى القضاء على الملك الاسلامي في بلاد الاندلس.
ومع تعاظم المسؤوليات وتعدد مهام الدولة رأت الملكة أن تستعين بكاتب سر يقوم بتحرير ما تراه ويرصد في سجلاتٍ خاصة محاضر اجتماعاتها بالوزير “المصحفي” وهكذا دخل “محمد بن عبد الله بن علي” الى قصر أمير المؤمنين ليعمل في خدمة الدولة، ووجدت الملكة “صبيحة” غايتها التي كانت ترجوها، ورأت الملكة أن ترفع من مكانة كاتبها وكاتم اسرارها فعينتهُ وكيلاً عنها يُشرف على أموالها وضياعها، ثم أقنعت الملك أن يُوكل اليه مباشرة شؤون أملاك ولي العهد وأن يجعله على خزائن الاندلس لعلمه الواسع بالشؤون المالية “.
المكيدة
وبدأت السنون تمر وبدأت معها سلسلة من الامراض تُهاجم أمير المؤمنين ليموت بعدها، وتصبح “صبيحة” كل شيء في الاندلس فعمدت الى تصريف الامور، حيث قامت بتطهير جو القصر من الدسائس وابعاد الطامعين ومن يتبعونهم حتى يكون الجو نقياً صالحاً للعمل بعد ذلك، ثم اتجهت الى الشعب فأقبلت تدرس أموره وتتعرف إلى مطالبه، فضلاً عن تربص أمراء الاقطاع من الفرنجة الذين ظنوا أن الفرصة قد حانت وأن الامور لا بد قد اضطربت بعد موت “الحكم”، وراحت الملكة تستعد لمواجهة الخطر الخارجي، فكانت أن عينت كاتبها المخلص قائداً للجيش الذي وجهته الى حرب الفرنجة للقضاء على أطماعهم ليعود الى “قرطبة” تسبقه أنباء انتصاراته على الفرنجة وتحطيم أحلامهم، فارتفعت مكانته في قلب الملكة والشعب ونال الحظوة وبلغ به طموحه وتطلعه، الى أن يفاجىء الملكة ذات يوم رغم علمه بما تتمتع به من قوة ومنعة بأنها اذا لم تقبل شروطه ومطالبه فسوف يكون له معها شأن اخر، واستعرضت الملكة “صبيحة” الموقف ووجدت أنها في موقفٍ حرج يُنذر بقيام حربٍ أهلية مما يُعرض أمن الاندلس للخطر، ورأت أن تتصاغر ظاهرياً وتُسرع للاتصال سراً ببعض أمراء الشمال الافريقي من الاغالبة لينقذوها من كاتبها السابق.
وعرف الكاتب الشاب من خلال عيونه التي ترقب خطوات الملكة ما كانت تنويه، وقام بعزل أمير المؤمنين الصغير في قصره وأحاطه بالجند والحراس، وراح يهيب بهشام أن ينصرف الى عبادته ولا يشغل نفسه بشيء، وأبت الملكة إلا أن تقاوم من أجل ابنها ومن أجل سلطتها وأحبت أن تلجأ الى حكم الشعب في شأن الغاصب الجريء، وإذا به يُسارع برد الضربة اليها بإضعافها، فاتصل بأمير المؤمنين الذي أبغض السياسة وكره شؤون الحكم، فاستكتبه إقراراً بأنه لا يصلح أبداً لإدارة شؤون الملك وأنه يتنازل عن كل سلطاته الى وزيره الاكبر “محمد بن عبد الله” وأن يكون وصيه من دون سائر الناس، ولقب نفسه بالملك المنصور دون أن يُقدم على تنصيب نفسه أميراً للمؤمنين.
وبعد أن فشلت محاولات صبح البشكنجية في استرجاع ملك ابنها الأموي والتغلب على سطوة الحاجب المنصور، اعتزلت ورضخت للمصير الذي آل إليه ولدها بعد أن ساهمت في صنع ذلك المصير، وتوفيت قبيل وفاة المنصور وكان ذلك في حوالي سنة 390 هـ.
وعكفت أواخر عمرها على الخير فأنشأت المساجد والمستشفيات، وعمرت المدارس والملاجئ، وأقامت القناطر والجسور، وشقت الترع والأقنية، حتى اعترف لها جيرانها الفرنجة النصارى بفضلها عليهم في هذا.
من ذلك أن ثبتوا لوحة على مجرى مائي كتبوا فيها: بُني هذا الطريق المائي بهمة الأميرة صبيحة أم أمير المؤمنين هشام جزاها الله خيراً فبمروءتها وفضلها لم تحرم ولايتا (السيجا وكارمونا) من الماء…