قصص إسلامية: العلماء العاملون

العالم الحقيقي هو من كان متواضعاً خائفاً وجلاً من خشية الله زاهداً في الدنيا قانعاً باليسير منها ، همه وشغله فيما يصلح آخرته ، ناصحاً لعباد الله شفيقاً عليهم رحيماً بهم ، آمراً بالمعروف فاعلاً له ، وناهياً عن المنكر ، وملازماً لذكر الله وحمده وشكره . وإن العالم الفاسد يفسد الملوك ، ووجد إن فساد الرعية سببه فساد الملوك ، وفساد الملوك سببه فساد العلماء ، ويعود فساد العلماء لما استولى عليهم من حب المال والجاه وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة ومداهنة المخلوقين وفساد النيات في الأقوال والأعمال .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الرجل ليكون غائباً عن المنكر في بيوت الولاة ويكون عليه مثل وزر من حضر وذلك لأنه يبلغه فيرضى به ويسكت عليه ، قلت وفي وقتنا هذا ما أكثر الساكتين والمدلسين والمداهنين الذين همهم وهدفهم الوحيد ما يملأون به بطونهم من مطعوم ومشروب أو ما يجملون به ظواهرهم من ملبوس ومركوب أو يتذوقون به من زوجة إلى زوجة دائماّ يطلق ويتزوج لا يستقر على الدوام .

وها هي نماذج من سيرة بعض العلماء المخلصين ونصحهم لولاة الأمور وبعدهم عن الطمع والجشع عكس ما عليه أكثر علماء هذا الزمان .. وما حدث حين علم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة ، أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر بنى مدينة الزهراء ووضع فيها الصرح الممرد ، واتخذ لقبته قراميد من الذهب والفضة .

فغضب الشيخ منذر لذلك ، وتألم لهذا البذخ في مال الدولة وعلم أنه المسؤول الأول أمام بديع السموات والأرض ، وأنه يتعين عليه أن ينهى عن هذا السرف المضر بصالح المسلمين .

فجاء إلى الناصر وقبح عمله هذا وأنبه بقوله ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله بلغ بك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين حتى أنزلك الله منازل الكافرين مع ما آتاك الله وفضلك على العالمين . فاقشعر عبد الرحمن الناصر من قول الشيخ وقال له أنظر ماذا تقول كيف أنزلني منازلهم ؟ . قال نعم أليس الله تعالى يقول « ولولا أن يكون الناس أمة واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً ، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين «

فسكت الناصر ونكس رأسه ساعة ، واغرورقت عيناه من البكاء وصارت دموعه تجري على خديه ولحيته ، خوفاً من الله حيث وصلت الموعظة الخالصة إلى قلبه ، وتأثر تأثراً عظيماً لأنها من قلب إلى قلب . ثم قال للشيخ جزاك الله عنا وعن المسلمين خيراً ، وأكثر فينا من أمثالك ، فالذي نطقت به حق والله وقام من مجلسه يلهج بالاستغفار ثم أمر بنقض سقف القبة ، وأعاد قراميدها تراباً .. وهنا يؤكد الشيخ عبد العزيز محمد السلمان فيما كتبه عن « موارد الظمآن لدروس الزمان « إن من القصة السابق ذكرها وقف سلطان الدنيا خاشعاً أمام هذا العالم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم الذي أدى واجبه على الوجه الأكمل معتمداً على فاطر السموات والأرض الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ولو كان من علماء هذا العصر المظلم لسمعت غير هذا فلا حول ولا قوة إلا بالله. يستكمل الكاتب ذكره لعالم آخر أيام أمير المؤمنين المنصور ، حيث ذكر أنه قدم أمير المؤمنين المنصور إلى مكة حاجاً فكان يخرج من دارالندوة إلى الطواف في آخر الليل ، يطوف ويصلي ولا يعلم به ، فإذا طلع الفجر ، رجع إلى دار الندوة ، وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس.

فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول ، اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم ، والطمع ، فأسرع المنصور في مشيه ، حتى ملأ مسامعه من قوله وفهم قوله كله.

ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه ، فأتاه الرسول ، وقال له أجب أمير المؤمنين، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور : ما هذا الذي سمعتك تقول من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم ، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني.

فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتنى على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل فقال له أنت آمن على نفسك فقال الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض.

فقال ويحك يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي. قال وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم. وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها عنهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها.

واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت لم يذكروك وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع ، والسلاح، وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق.

فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرتهم أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا. فأتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره.