من أهم القضايا التي اتخذت مجالا لغمز التشريع الإسلامي واتهامه بظلم المرأة والانحياز المطلق إلى جانب الرجل: هذه القضية، أعني إباحة الشريعة الإسلامية للرجل المسلم أن يجمع بين أكثر من زوجة واحدة.
وفي هذا الشأن يقول الدكتور محمد بلتاجي في كتابه «مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة»: أنه في أحيان كثيرة كان الهجوم على (التشريع الإسلامي) من هذه الناحية يتخذ وضعا مكثفا ومركزا إلى حد يوحي لسامعه أو قارئه بأن الرجل المسلم لا هم له في الحياة إلا أن يعمل جاهدا للجمع بين النساء والاستمتاع بهن، بحيث لا تخلو ذمته في وقت ما من أقل من أربع زوجات، وهو الحد الأعلى الذي أباحته الشريعة الإسلامية له. كأن الجمع بين الأربع – في إيحاء هؤلاء الطاعنين وزعمهم – هو الدرجة العليا في الكمال الإسلامي في الدين والدنيا بحيث ينبغي على المسلم الصادق حقا أن يتجه بكل طرق إلى أن يحقق لذاته هذا الكمال الأعلى ليكون مسلما مثاليا.
وكل هذا – كما سنرى – أوهام وأباطيل انبنت على الجهل أو سوء الطوية والكيد للإسلام واتباع الشبه الباطلة والنفخ فيها بكل بهتان.
وقد أثمرت هذه المحاولات ثمارها في طائفة – ليست قليلة العدد – من أبناء المسلمين وبناتهم، وقد هيأت ظروف وأوضاع متعددة في المجتمعات الإسلامية في عصورها الأخيرة مجالا خصبا لازدهار هذه الثمار التي غرست بذورها كلمات المبشرين وصنائعهم من بين مواطنينا، ووجدت هذه البذور الأرض المهيأة في ظل أوضاع معظم المجتمعات الإسلامية البعيدة عن فهم تشريعها الإسلامي بصورة سليمة متكاملة، والواقعة نهبا لكل فكرة غريبة، مهما بلغ شذوذها وبعدها عن تحقيق المصلحة الدنيوية أو الدينية لنا.
وقد وصل هذا الثمر المر إلى مجال التقنين والتشريع في بعض البلاد الإسلامية فحرمت – في هذا المجال – ما أحله الله تعالى بنص القرآن الكريم، وأصبح من المعاد المكرر أن نقرأ بين الآونة والأخرى دعوات ملحة إلى أن يحتذي التشريع حذو هذه البلاد الإسلامية التي أقدمت على هذا التحريم لما أحله الله، وعاقبت عليه.
لسنا أول من نقرر أن كثيرا من التشريعات قد أباحت لرجالها تعدد الزوجات، وفيما يتصل بالأديان السماوية الكتابية فإننا نجد التعدد بصورة واضحة في (التوراة) التي يقدسها اليهود اليوم، ويشاركهم المسيحيون أيضا في تقديسها تحت اسم (العهد القديم)، وهو عندهم في مقابل (العهد الجديد).
هذا ما يتصل بتعدد الزوجات في اليهودية والمسيحية، ونضيف إلى هذا أن كثيرا من الشعوب الأخرى (من غير أتباع الأديان السماوية الثلاثة) كانت تمارس تعدد الزوجات، حيث كان مشروعا في نظمها الاجتماعية، فقد كان التعدد شائعاً بين الشعوب الأفريقية الوثنية، وما تزال له آثار بين بعض قبائلها، وكان شائعاً بين العرب القدماء قبل الإسلام بغير ما حد، وكان شائعاً بين كثير من الشعوب الآسيوية، ولا تزال له آثار في بعض مناطقها، وكان شائعا بين معظم البلاد الأوروبية في القديم. ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا: إنه لا يكاد يكون هناك مكان عاش فيه البشر حياة متحضرة إلا وقد شهد تعدد الزوجات وقتا ما، طال هذا الوقت أو قصر، بل إن بعض الباحثين يربط بين التعدد والحضارة حين يقول: (والحقيقة كذلك أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة، على حين أنه قليل الانتشار أو منعدم في الشعوب البدائية المتأخرة، كما قرر ذلك أئمة علماء الاجتماع ومؤرخو الحضارات وعلى رأسهم وستر مارك وهو بهور وهويلر وجنزبرج. ويشير أحمد قدري باشا في كتابه «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية» أن تعدد الزوجات في الإسلام وردت إباحته في قوله تعالى في مطلع سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا، وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا، وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) (النساء 1-3 ). ثم ورد قوله تعالى في نفس السورة: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} (النساء 129). وهكذا بدأت السورة بإعلام الخليقة أن الله تعالى قد خلقهم جميعا من نفس واحدة، وأن للبشرية رحما عامة واحدة، وأن مقتضى هذا أن يتقي كل منهم الله في الآخر، وأن يراعوا في ذلك أصل خلقهم من النفس الواحدة ورحمهم العامة، ورتب على ذلك وجوب العدل في معاملة اليتامى وحرمة أكل أموالهم، ثم ربطت الآية الثالثة – المقصودة بالاستشهاد هنا – بين الخوف من عدم العدل في اليتامى وإباحة التزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع عند الاطمئنان إلى العدل بينهن، وإلا وجب الاقتصار في النكاح على واحدة.
والربط بين الأمرين جاء في نص الآية على سبيل الشرط وجوابه: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب…} و(الإقساط) هو (العدل) من أقسط الرجل بمعنى عدل. وعلى هذا يكون معنى الشرط وجوابه: {وإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء…}.
قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن (تعني: حين لا تكون اليتيمة ذات مال وجمال).
ويقول رشيد رضا معلقا على هذا القول: (فعلى هذا تكون الآية مسوقة في الأصل للوصية بحفظ حق يتامى النساء في أموالهن وأنفسهن. والمراد باليتامى فيها: النساء، وبالنساء يعني في قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} غير اليتامى، أي: إن خفتم ألا تقسطوا «لا تعدلوا» في يتامى النساء فتعاملوهن كما تعاملون غيرهن في المهر وغيره أو أحسن، فاتركوا التزوج بهن وتزوجوا ما حل لكم أو ما راق لكم وحسن في أعينكم من غيرهن).


