فوجئت نهلة بصوت مرتفع يأتي من نافذة جيرانها، إنه صوت أغنية لمطرب جديد، قامت على الفور وأغلقت نافذة حجرتها حتى لا يصلها الصوت، فهي تذاكر كثيراً لأن امتحان الثانوية العامة قد اقترب، ولكن.. ما هذا، الصوت يعلو أكثر وأكثر، وبدأت نهلة تتساءل، ألا يعرف هؤلاء حق الجار، ألا يعلمون أن هناك من يذاكر لأن الامتحانات على الأبواب؟ وقفت نهلة محتارة ماذا تفعل، هل تذهب إليهم وتطلب منهم إغلاق التلفزيون؟ أم تنتظر حتى تنتهي هذه الأغنية، فربما يختفي ذلك الصوت. جلست نهلة على سريرها ووضعت بعض القطن في أذنيها لتخفض من الصوت الذي تسمعه، وظلت تردد «حق الجار»، «حق الجار»، «حق الجار». هذا ما أوصانا به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لماذا لا يراعون ذلك، ثم قررت أن تطرق باب الجيران وتطلب منهم خفض صوت التلفزيون قليلا، فذهبت إليهم ورنت الجرس، وانتظرت حتى يفتحوا الباب، فلم يرد أحد، رنت الجرس مرة أخرى ومرة ثالثة، ولكن دون جدوى، طرقت الباب بقوة، وإذا بالباب ينفتح ويخرج منه أحمد، الطفل الصغير ذو العشر سنوات، وقال لها ماذا تريدين يا أبلة نهلة، فسألته عن والدته فأخبرها أنها ذهبت إلى السوق وأنه يجلس وحده يشاهد التلفزيون، فطلبت منه أن يخفض صوته قليلا لأنها تذاكر دروسها من أجل الامتحان، فرفض وقال لها إنه يحب الصوت المرتفع، وأغلق الباب في وجهها.
عادت نهلة في ذهول مما تعرضت له من إحراج، ولكنها قالت إنه طفل صغير لا يفهم معنى ما فعله، وسوف تشتكيه لأمه حين عودته، ولكنها كانت منفعلة جدا من الموقف، دخلت حجرتها وجلست على سريرها مرة أخرى، تفكر وتفكر ثم قررت أنها سوف تجمع أبناء جيرانها الصغار وتتحدث معهم عن حق الجار وتعلمهم مراعاة حقوقه، عرضت هذه الفكرة على أمها، فوافقت بشرط ألا يتأثر وقت مذاكرتها بذلك.
على الفور ذهبت إلى الجيران واحدا تلو الآخر وعرضت عليهم الفكرة ثم عادت إلى حجرتها ومعها سبعة أطفال بمن فيهم ذلك الطفل المشاكس الذي أحرجها، والذي لم يأت معها إلا بعد أن وعدته أنها سوف تشتري له آيس كريم، جمعت نهلة الأطفال وأجلستهم وبدأت تتحدث معهم قائلة:
ماذا ستفعل يا أحمد لو أنك كنت نائماً وطرقت عليك الباب، وأيقظتك وعندما فتحت الباب لم تجد أحد، ثم عدت مرة أخرى إلى النوم، ثم طرق الباب عليك مرة أخرى وأيقظتك، وفتحته ولم تجد أيضا أحدا، وكررت ذلك أكثر من مرة؟
فقال أحمد: سوف أغضب كثيرا وسوف أختبئ في المرة التي بعدها لأعرف من هو وبالتأكيد سوف أضربه حتى لا يفعل ذلك مرة أخرى.
ردت عليه نهلة: أرأيت، لقد غضبت لأنني لم أراع حقك وظللت أزعجك.
فهم أحمد أنها تقصده لأن صوت تلفزيونه كان مرتفعا ورفض أن يخفضه، فسكت. قالت نهلة: إن إزعاج الجار يا أحبائي الصغار شيء خطير ويعرض صاحبه إلى عذاب النار يوم القيامة، ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالجار ونبه إلى حرمة إزعاجه وخطورة إيذائه؟
فردوا جميعا: كيف؟
قالت نهلة: أوصانا الله تبارك وتعالى بحق الجار في كتابه الكريم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا}.
وجاءت سنة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المطهرة لتوضح وتبين لنا عظم حق الجار، وتأمرنا بالإحسان في معاملته، وتحذرنا من الإساءة إليه بالقول أو الفعل، وفي ذلك أحاديث كثيرة مثل توصية سيدنا جبريل لنبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بعظم حق الجار ووجوب مراعاة ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (متفق عليه)، ويورثه أي أنه سيجعله سبباً للإرث بمعنى الميراث.
وهذا حديث ينهى عن أذى الجيران: (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره».
وحديث آخر ينهانا عن إيذاء الجيران ولو باللسان: «عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصّدق، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير فيها هي من أهل النار». قيل: وفلانة تصلي المكتوبة، وتتصّدق بالأثوار ولا تؤذي أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي من أهل الجنة».
رأيتم يا أحبائي كيف وصانا الله تعالى وكذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بحق الجار وعدم أذيته أو التعرض له بأي شكل يضايقه؟
فردوا جميعا بصوت واحد: نعم يا أبله نهلة، ولن نزعج أحدا من الجيران بعد ذلك.
نظرت نهلة إلى أحمد: فوضع رأسه في الأرض، فذهبت إليه ورفعتها إليها ونظرت في عينيه وابتسمت، ثم همست في أذنه وقالت له: لقد سامحتك لأني أعلم أنك لن تفعل ذلك مرة أخرى.
ابتسم أحمد وقال لها: سأفعل ولكن عليك أن تعديني أن تذاكري جيدا لتصبحي طبيبة.. ضحكت نهلة وضحك الجميع، وانصرفوا إلى بيوتهم، وعادت نهلة إلى مذاكرتها سعيدة هادئة.


