شذرات: أمين الوحي

ناصر بن محمد الزيدي -

يـقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز : { إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة اعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما } ، ومما يـذكـره العـلـماء والمفـسرون بأن لأمـين الـوحي جـبريـل عـليه السلام سـتمائة جـناح ، وهـذا الـذي اتـفـق عـليه ، كـما أن الله أعـطـاه قـوة عـلى تغــيير خـلـقـتـه ، ولـذلك فهـو يـغــير شـكله مـن صـورة إلى أخـرى ، يظـهـر بمظـهـر البشـر السـوي مـن لحـم ودم ، كما قال الـرسـول صلى الله عـليه وسـلم: (وأحـيانا يأتـينـي عـلى صـورة دحـية بن خـلـيـفـة الكـلـبي).

وقــد رآه الصحابة رضي الله عـنهـم عـلى هـذه الصـورة مـرارا ، كـما كان يـذكـر في غـزوة بني قـريظـة ، فـقــد مـر النبي صلى الله عـلــيه وسـلـم بهـم وهـم يـتهـيـؤون للخـروج إلى بني قـريظـة فـسألهـم : ما أنـبأكـم بهـذا فـقـالـوا مـر بنا دحـية بن خـليـفـة الكـلبي ، فأمـرنا فـقال لهـم ذلـكـم جـبريـل عـلـيـه السـلام .

ولما مـر رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم بنفـر مـن أصحابه بالصوريـن قـبـل أن يـصل إلى بني قـريـظـة ، فـقال : هـل مـر بـكـم أحـد ؟ ، قالـوا : يا رسـول الله قـد مـر بنا دحـية بن خـليـفة الكـلبي عـلى بغـلة بيضاء عـلـيـها رحاله ، عـليـها قـطـيـفة ديـباج فـقال رسـول الله صلى الله عـلـيـه وسـلم : ( ذلك جـبريـل بـعـث إلى بني قـريظـة يـزلـزل بهـم حـصونهـم ، ويـقـذف الـرعـب في قـلـوبهـم ( ابن هـشام السيرة النبوية جـ 4 ، ص 193).

ذكـر القـرآن الكـريـم أن النبي- صلى الله عـلـيه وسـلم- رأى جـبريـل عـلـيه السلام عـلى صورته الحـقـيـقـية مـرتـيـن إحـداهـما هي التي ذكـرها الله تعالى في قـوله : { فاسـتـوى وهـو بالأفـق الأعـلى ، ثـم دنا فــتـدلى فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى } والثانية هي التي ذكـرها في قـوله : { ولـقـد رآه نـزلة أخـرى عـنـد سـدرة المنتهى}.

إذن : لـقـد اسـتـوى جـبريـل عـلـيـه السـلام عـلى صـورته الحـقـيـقـية وهـو بالأفــق المـبيـن ، ثـم بـدأ يـتـدلى ويـنـزل شـيـئا فـشـيـئا حـتى اقــترب مـن النبي -صلى الله عـلـيـه وسـلم- و نحـن لا نعـلم مـقــدار العـلـو الـذي تـدلى منه جـبريل عـلـيـه السـلام ، فالأفــق نـفـسه بـعـيـد ثم زاد فـوصفـه الله تعالى بالأعـلى ، قال بـعـض المفـسرين : في الآية قـلـب الأصـل ، كان مـن المـفـروض أن يـقـول : ثـم تـدلى فـدنا ، ولـكـن لا ، إذ لا يـوجـد فـرق في ذلك ، لأن المـراد هـو الجـمـع بـين الـدنـو والـتـدلي ، فـهـو يـقـترب مـتـدلـيـا ، وكأنه يـنـزل شـيـئا فـشيئا حـتى اقــترب مـن النبي -صلى الله عـلـيـه وسـلم- فـكان بمـقـدار قـوسـين أو أقـل مـن قـوسـين.

ولـيـس في قـوله تعالى : { فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى } شــك مـنـه في تـقـديـر المسافة ، تعالى الله عـن ذلك عـلـوا كـبيرا ، فـلا يـلـتـبـس عـلـيـنا الأمـر فـنـقـول : لماذا يـقـول الله تعالى : { فـكان قـاب قـوسين أو أدنى } ؟ ولماذا لم يـحـدد المسافة بـدقـة وهـو أعـلم بها ؟ ، فالله تعالى يعـلم حـقـيـقـة الـبـعـد والـقـرب بالـتـدقـيـق، وإنما جـاء هـذا الـتـعـبـير عـلى حـسب تعـبـيـر الـبـشـر عـن القـرب.

فاقـتضـت حـكمة الله تعالى أن يـعـبر به ، حـتى يكـون أسـلـوب الـقـرآن الكـريـم عـلى الطـريقـة التي يعــبر بها البـشـر بعـضهـم لبـعـض ، لكـنه يـبـلـغ درجـة الاعـجـاز، ويـشـبـه هـذا قـوله تعالى في سـيـدنا يـونـس عـلـيـه السـلام : { وأرسـلناه إلى مـائـة ألـف أو يـزيـدون } سـورة الصافات 147، فـقـد يـقـول أحـد: لماذا لم يحــدد الله تعالى الـعـدد وهـو أعـلـم به؟ والجـواب فـإن لله تعالى في ذلك حـكـمة وســرا، ولـيس خـفـاء ذلك ينقص مـن روعة الإعجاز

قال الله تعالى : { فأوحـى إلى عـبـده ما أوحى } سـورة النجـم 10، دنا فـتـدلى فأوحى إلى عـبـده محـمـد بن عـبـد الله ( وهـو عـبـد الله ورسـوله ) ما أوحى ، ويـستعـمـل هـذا الأسـلـوب للـتـفـخـيـم والـتعـظـيـم ، يعـني : أوحى إلـيـه ما لا يحـيـط به الـوصف ، وما لا يعـلمه إلا الله وجـبريـل عـلـيـه السـلام ومحـمـد صلى الله عـلـيـه وسـلم .

قال الله تعالى : { ما كـذب الـفـؤاد ما رأى } سـورة النجـم 11، ما معـنى هـذا ؟ : مـعـناه أن النبي -صلى الله عـلـيـه وسـلـم- رأى جـبريـل عـلـيـه السـلام ولـم يـكـن يـعـرفه مـن قـبـل : رآه عـلى صـورته الحـقـيـقـية أو عـلى صـورته غــير الحـقـيقـية إذا تمـثـل له بـشـرا سـويا ، ولـكـن ما الـذي جـعـل النبي -صـلى الله عـلـيـه وسـلـم- يتـيـقـن بأن هـذا الـذي رآه هـو جـبريـل سـيـد المـلائكـة ، وأنه رسـول جـاء مـن قـبـل الله تعالى هـذا ما يجـب أن يـعـلمه الناس ؟ .

وهـذا الـذي عــبر عـنه الله تعالى بـقـوله : { ما كـذب الـفـؤاد ما رأى } ، يـعـني ما كـذب الـفـؤاد ما رأى، فالله تعالى يملأ فـؤاد نـبيه- صلى الله عـلـيه وسـلم- طـمأنـينة وتصـديقـا وتحـقـيـقا وعـلما يـقـيـنـيا لا شـك فـيه بأن هـذا الـذي يـوحي إلـيه هـو جـبر يـل عـلـيـه السـلام رسـول الله إلـيـه ، وإلى جـميـع الـرسـل الـذين سـبـقـوه، ولـكـن لماذا عـبر عـن هـذا بنـفي الكـذب عـن الـفــؤاد ؟ .


ذلك لأن العـيـن قـد تـرى شـخـصا فـتـظـنه فـلانا أو فـلانا أو حـيـوانا أو أســدا أو ذئـبـا ولـكـن الـفـؤاد يـكـذبـها ، فـقـد يـقـول لك أحـد : أنا فـلان فـتـقـول له : كـلا ، لسـت فـلانا ، لأن فـؤاده كـذبه، فالحـرف هـو الـحـرف الـذي يسـتعـمـل للـنـفي جـيء به لإدراك الحـقـيـقـة وللـتيـقـن مـن إدراك الـفـؤاد لها، فالـيـقـين لا يـكـون مـن نظـر العـين، وإنما يكـون مـن تصـديـق الـقـلـب ، ولـهــذا عــبر الله تعالى بـقـوله : { ما كـذب الفـؤاد ما رأى } يعـني : لـقـد صـدق الـفــؤاد ما رآه ولـم يـكـذبـه ، وجـد النبي-صلى الله عـلـيـه وسـلم- في فـؤاده عـلما ضـروريا يـقـيـنـيـا بأن الــذي يحـدثـه هـذا هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام لا غـــيره.

فالمسمـوعات والمبصرات والمشمـومات تـتـم بـواسـطـة الحـواس الـثـلاث: (الأذن ، والعـين ، والأنف)، أو بـواسـطة أية جـارحة أخـرى ، إلا أن هـذه الحـواس قـد تـخـدع الإنـسان فـيـرى الشيء عـلى غــير صـورته الحـقـيـقـية، وهـذا ما يسمى بخـداع الـنـظـر، أو خـداع البـصـر، وكلـنـا نصاب بهـذا ، فـقـد تـرى العـين الشيء شــيئين ، فـيـظهـر بعـد ذلك أنـه شـيء واحـد ، وقــد تـرى الشيء الكـبير صـغـيرا لـبعـد المسافـة بـين الـرائي والمـرئي والصغـير كـبـيرا للـقـرب بـين الـرائي والمـرئي، وكـذلـك خـداع السماع وخـداع الـشــم وغـيرها مـن الحـواس .

أما الإدراك الحـقـيـقي والـتـصـديـق الحـقـيـقي فـلا يـتـمـان إلا بـقــوة الإدراك الـتي وضعـهـا الله تعالى في الـفـؤاد أي في الـقــلـب ، فـإذا تـم تـصديـق الـقـلـب مـع بصـر العـين أو سـماع الأذن حـصـل الـتـحـقـيـق ، وهـذا باب واسـع خاض فـيه الــذين تـكلـمـوا عـن الـحـواس في الـقـديـم والحـديـث، وإلى هـذا يـشـير الشاعـر المعـري في بعـض أبياته قائـلا :

والنجـم تسـتصـغـر الأبصار رؤيته والـذنب للـطـرف لا للـنجـم في الصـغـر

والبيت مـن قـصيـدة مـطـلعها :

يا سـاهـر الـبرق أيـقـظ راقـد الـسمـر لـعــل بالجـزع أعـوانا عـلى السـهـر

فـنحـن نـرى الـنجـم في السماء بـقـدر درهـم أو ديـنار ، ولـكـنه أكــبر مـن الأرض عـــدة مـرات، والصـغـر والكـبر لـيـسـا حـقـيـقــيـين، وإنما هـما نسـبـيـان، فـهـذه مـرآة تـكـبر الحجـم مـئات الـمـرات، وتـلك تصـغـر مـئات المـرات ، فأحجـام الأشـياء تخـتـلـف باخـتـلاف ما تـرى بهـا والمـدرك الحـقـيـقي إنما هـو الـفــؤاد ، وإلا فـلـيـس لأحـد أن يـقـول للـرسـول -صلى الله عـلـيـه وسـلـم : ما أنباك أن الـذي جـاءك عـلى صـورة دحـية بن خـلـيـفـة الكـلبي أو غـيره هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام ؟، وإذن : فالأصل في الإدراك هـو تصـديـق الـقــلـب و بصر الـقـلـب ، وإيـمان الـقـلـب ، وهـذا مـبـلـغ عـلمنا وقـصارى جـهـدنا .

قال الله تعالى : { أفـتـمارونـه عـلى ما يـرى } ، أ فـتجـادلـونه فـيـما رأى ويـرى ، وتقــولـون له : إن الـذي يـأتـيـك لـيـس بجـبريـل ؟ ، ولـعـله يخـيـل إلـيـك أن أحـدا يـأتـيـك ، لأنهـم قالـوا للنـبي- صلى الله عـلـيـه وسـلم- إذا كان الـذي يـأتـيـك رئي مـن الجـن طـلبـنا لك الـدواء عـنـد الكهـنة والسـحـرة والعـرافـين، فـمتى كانت هـذه الـرؤية ؟.

قال عـتـبـة بن ربيـعـة للنـبي صلى الله عـلـيـه وسـلم : ( يا ابن أخي ، إن كـنت تـريـد بما جـئـت به مـن هـذا الأمـر مالا ، جـمـعـنا لك مـن أمـوالـنا حـتى تـكـون أكـثرنا مالا ، وإن كـنـت تـريـد بـه شـرفا سـودناك عـلـيـنا حـتى لا نـقـطـع أمـرا دونـك ، وإن كـنـت تـريـد به مـلكـا مـلـكـناك عـلـيـنـا ، وإن كان هـذا الـذي يأتـيـك رئـيا تـراه لا تسـتطـيع رده عـن نـفـسـك طـلـبـنا لك دواء وبـذلـنا فـيه أمـوالـنـا نـبرئـك مـنه ، فـإنه ربـما غـلب التابـع عـلى الـرجـل حـتى يـداوى مـنه ) ؟ . ( ابن هـشام السيرة جـ 2، ص 131) .