مليكة السيابية -
مريم عليها السلام في موقف يهز الجبال، تلد تحت جذع النخلة ولم يمسسها بشر، وفي سكرة المخاض، والخوف من العودة للمجتمع بالوليد الجديد..
تنهارُ قواها تمامًا، ويأمرها المولى عز وجلّ.. «وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا»..
وكانت سيدتنا هاجر عليها السلام تسعى بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء، ولو شاء المولى لفجرهُ تحت قدميها، ولكن للسعي والجهد حكمة..
ويفاجئك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، إنها إيجابية المؤمن وصفته اللازمة، فلا تخلو بين يديه ساعة بلا عمل.
سر التقدم: وسر تقدم الدول الصناعية فقيرة الموارد الطبيعية في عقلية أفرادها التي نمت على حب العمل الجاد المستمر، بينما ترنو عقلية الفرد في الدول النامية نحو الأهداف والأحلام، ولكن تقف مكلولة اليدين إما لضعف الثقة، أو لعقبات البيئة..
وأمة تربت على حب العمل كونه امتدادًا إلى الآخرة، حَريَّة بأن تكون في المقدمة في المجال الصناعي والحضاري.. «من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون».
وشهر رمضان هو رمز العمل والجهد فكم من الغزوات والفتوحات كانت في رمضان، فهو شهر الإنجازات والانتصارات على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع، ولكن يفاجئك البعض بالإجازة والنوم في شهر فضيلٍ واسعِ الخيرات والبركات..
ولكن قلة التجارب هي سرُّ ضعف الثقة، لأن ضعيف الثقة يظن نفسه أقل مما يمكن أن يكون عليه، بل ويظل بقية عمره ساخرًا من مجتمعه، مُعظِّمًا لغيره مهما كانت نقاط ضعف الآخر..
ولو أنه تحرَّك وعمل واجتهد لاندهش من إمكاناته المدفونة، التي ظلت راكدة لسنوات ولم يُكشَف عنها النقاب بعد، يقول أحد المفكرين: «سندهش من أنفسنا عندما ننطلق».
وتقول القاعدة: إذا أردت السباحة فتعلمها وارمِ نفسك في الماء. نعم لا بُدَّ للإنسان العملي من سرعة ولياقة في الحركة، فلا يطيل الجلوس في البحث بين التفصيلات، نعم تراهُ يجمع المعلومات ويخطط ثم ينهض ويتحرك، وقد سئل أحد المديرين الناجحين: كم تخطط؟ قال عشر دقائق وأبدأ، ولو تأخرت ستضيع الكثير من الفرص. الفرص تُقتنص: إن اقتناص الفرص بالولوج في ساحة العمل الجادّ أفضل استثمار معرفي لمعرفة أسرار العمل وخباياه من خلال معايشة الواقع، رغم ما في ذلك من مغامرة ولكن تختفي خلف المغامرات الكثير من الخبرات التي نحتاجها مستقبلاً.. وتبني الخبرات والمعارف في أنفسنا الثقة اللازمة لعدم الالتفات لأقوال المثبطين، وما أكثر الآذان التي تستمع إليهم في الدول النامية، بسبب فقر رصيد الأفراد من التجارب والخبرات.
وتكمن روعة الخبرة في أنها تسهل عليك بذل الجهود الكبيرة التي تفوق النتائج بكثير، فكثيرٌ هم من يعتقدون وجوب الجلوس للعمل أوقاتًا طويلة وتأتي نتائجهم زهيدة، متجاهلين الطرق القصيرة للوصول إلى الأهداف، وما ذلك إلا لجهلهم بقيمة التخطيط والترتيب الذي يأخذ القليل من أوقاتهم ويعود عليهم بعوائد ضخمة.. عصر الدقة: نحن نعيش عصرًا لا يقبل إلا المعلومات الدقيقة والأرقام الدقيقة، وحين نبني أعمالنا على خطط منهجية عميقة، تتغير النتائج جذريًا، وكم أَعجَبُ من حرص بعض المسؤولين على كثرة الإنتاج، ولو أنه أعادَ صياغة بعض الأمور بشكل دقيق، ودرَّب موظفيه على ذلك لاختلفت النتائج نوعًا وكمًا..
وحين يحدثُ ذلك ترى الحماسة وحبَّ العمل في وجوه الموظفين، فيبذلون الجهد المطلوب، وهذا سر اهتمام الدول المتقدمة بالتدريب المستمر لموظفيها، ودفع المبالغ الطائلة فيه.
حبُّ العمل: علمنا الإسلام أن نعمل بإحسان وإتقان، والتقوى رافدنا في ذلك «أن تعبد الله كأنك تراه فأن لم تكن تراه فهو يراك»، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم يد أحد العمال لما لمس خشونتها من العمل فقال: «هذه يد يحبها الله ورسوله». وقد قال تعالى: «وقل اعملوا آل داود شكرًا»، وقال عنه القرآن: «وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون».
فالمؤمن لا يعمل من أجل نتائج وحسب، بل يعمل ذِكرًا وشُكرا.. ويعمل حبًا ورضًا وتحقيقًا لذاته، فلا تعجب إن رأيته يضحي ببعض نومه وراحته، فهمُّه الدقة والإتقان، والبذل والإحسان..
وقد سُئلَ أحدهم عن سبب شحوب وجهه كونه يضحي بشيء من راحته لأجل العمل فردَّ بهذه الأبيات:
إذا رأيت بوجهي لاح الشحوب فلا تسلني لمَ هذا الشحوب؟
فلي روح تأبى القعود أو الركود تأبى الوداعة أوالسكون أو القيود
ومضة: ليس هناك ضعيف لكن هناك من لم يعرف نقاط قوته، وليس هناك فاشل لكن هناك من كف عن المحاولة.. د.عبد الكريم بكار


