عبدالرزاق الربيعي-
في عواصم كثيرة، توجد مقابر للغرباء، تستوطن بترابها جثامين الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة خارج بلدانهم، ومن هذه العواصم (دمشق) التي تحتضن مقبرة كبيرة للعراقيين، ضمّت رفات كبار الشعراء ومن أبرزهم:محمد مهدي الجواهري، ومصطفى جمال الدين، ويوسف الصائغ، لكنّ حبيب بن أوس بن الحارث الطائي المكنّى (أبوتمّام) المولود سنة803م بجاسم، وهي من قرى حوران بسورية، شاءت له الأقدار أن يدفن في الموصل في 845 م بعد أن ولّاه المعتصم الذي استقدمه من مصر إلى بغداد بريد الموصل، وهو القائل عنه ( فكره يأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده ولايعيش كثيرا ) وصدق فلم يعش سوى42سنة، وحين رثاه الحسن بن وهب وصف قبره بـ( الغريب )، بقصيدة يقول فيها:
(سقى بالموصل القبر الغريبا
سحائب ينتحبن له نحيبا
ولطمن البروق به خدودا
وشققن الرعود به جيوبا
فإنّ تراب ذاك القبر يحوي
حبيبا كان يدعى لي حبيبا )
فكأنّ قبره نواة لمقابر الغرباء، ذلك القبر الذي ظلّ قرونا عديدة، معزّزا، مكرّما، تفخر به (الموصل) كونه يعود لواحد من أهمّ شعراء العصر العبّاسي المجدّدين، وهو القائل، عندما فتحت جيوش المعتصم عموريّة داحرة الروم:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حدّه الحد بين الجدّ واللعب
ولم يكن، حين أنشد تلك القصيدة بين يدي المعتصم، للدقّة كان يستعين براوية، لأن صوته كان أجش، أقول:لم يكن يعلم أنّ السيف الذي تغنّى بفتوحاته سيسلّط على رقبته، بعد حوالي 1200سنة من وفاته، فالشاعر العبّاسي الذي عانى من هجوم شعراء ونقّاد عصره كونه خرج على التقاليد الشعريّة السائدة، المتمثلة بـ(عمود الشعر) كما اصطلح على تسميتها النقاد القدامى، تعرّض لهجوم جديد، لكنّ الهجوم هذه المرّة ليس نقديّا، بل مسلحا بالديناميت، والوجوه الغاضبة، وجاء من قبل متشدّدي (داعش) بعد سيطرتهم على (الموصل).
استهداف (أبي تّمام) الذي ينحدر من أسرة مسيحيّة، لكنه أسلم، كان معنويّا، فلم تحرق كتبه، بل جرى تفجير تمثاله، مثلما فجّرت ميليشيات مناوئة لـ(داعش) في بغداد تمثال بانيها (أبوجعفر المنصور) في 18 أكتوبر 2005 م، ليتّفق الطرفان المتحاربان في تهشيم الرموز التاريخيّة، وكلّ طرف له دوافعه، وأجندته !!
وعلى مسافة من أنقاض تمثال (أبي تمّام) الذي نحته الفنان نداء كاظم، وأزيح الستار عنه في مطلع السبعينيّات خلال فعاليّات مهرجان (أبي تمام) الشعري، طال العبث تمثال اسحاق الموصلي أشهر موسيقيي العصر العبّاسي، الذي غنّى، وضرب على عوده في مجالس ستة خلفاء: أوّلهم هارون الرشيد، وآخرهم المتوكّل ! وكان معروفا بسعة العلم والنزاهة، وقد شهد له المأمون بقوله (لولا اشتهار إسحاق بالغناء لَوَلّيتُه القضاء، لما أعلم من عفّته ونزاهته وأمانته)
وإذا كان شاعرنا قد مُني بهدم تمثاله مثلما حصل لإسحاق الموصلي، ومن قبلهما جار الزمان على باني بغداد (أبي جعفر المنصور)، ببغداد، من قبل ميليشات على طرف آخر من الذين لم يسلم ( أبوالعلاء المعرّي ) من آذاهم فقطعوا رأس تمثاله في مسقط رأسه بمدينة معرة النعمان في محافظة أدلب السوريّة.
يقول الباحث فاضل الربيعي( ذات يوم دخل النازيون في قلب الأراضي اليونانية، لكن أحداً لم يفكر بتحطيم نصب الشاعر الأعمى هوميروس. ويوم هبّ اليونانيون في ثورات اجتماعية كبرى، لم يفكر أحد خلالها بقطع رأسه، ولا في ستر جسد أفروديت العارية في الأكروبول المقدّس، وذات يوم وصل الآشوريون إلى شواطئ المتوسط، لكن أحداً من جنود الإمبراطورية العراقية القديمة لم يفكر، مجرد تفكير بسرقة تمثال أبولو). معاول التشدّد طالت في أماكن أخرى تماثيل أخرى لطه حسين، وأم كلثوم، وستطال أخرى، لكنّ أصحابها يظلّون أوفر حظّا من الفيلسوف اللغوي(ابن الأثير) صاحب كتاب(الكامل في التاريخ )، وكان قد وُلد في منطقة تقع على حدود تركيا، ورحل إلى دمشق، واستمع إلى كبار فقهاء الشام، ثم عاد إلى الموصل، وانقطع للتأليف حتى وفاته سنة 1233م، وظلّ في رقدته الأبديّة حتى الأيّام القليلة الماضية، حيث جرى نبش قبره ضمن هوس استهداف رموزنا الحضاريّة، والثقافيّة التي وجدت نفسها غريبة في عالم يعيد إلى أذهاننا ماقرأناه عن جرائم إحراق الكتب، وإتلافها، ورميها في نهر دجلة حين وطأت ترابها حوافر جيش (المغول).