د.عبد العاطى محمد -
قبل عام تقريبا كانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن عدد اللاجئين حول العالم وصل إلى 7.6 مليون لاجئ فى عام 2012 فى أعلى معدل له منذ عام 1994، مشيرة إلى أن 55% من اللاجئين في العالم يأتون من خمس دول هي، أفغانستان، الصومال، العراق، السودان، سوريا. والأخيرة جاءت كأكبر رابع دولة مصدرة للاجئين.
إلا أن هذه الأرقام بالنسبة لسوريا تغيرت إلى حد مخيف وفقا للتقارير الحديثة هذا الصيف. ففي تقريره الشهرى إلى مجلس الأمن أعلن الأمين العام للأمم المتحدة كي مون يوم 20 يونيو الماضي أن عدد السوريين الذين يحتاجون إلى مساعدة إنسانية ملحة ارتفع إلى 10,8 مليون شخص، أي حوالي نصف سكان سوريا البالغ عددهم 22 مليون نسمة.وقال إن 4.7 مليون من هؤلاء السوريين موجودون فى مناطق (يصعب إن لم يكن يستحيل) وصول العاملين فى المجال الإنسانى إليها، بما فى ذلك 241 ألف شخص فى مناطق محاصرة. وكانت تقديرات سابقة ذكرت أن عدد هؤلاء يبلغ 3.5 مليون شخص. وأوضح الأمين العام للأمم المتحدة فى تقريره الرابع حول هذه المسألة الذى يغطي الفترة من 20 مايو إلى 17 يونيو أنه من أصل 10.8 مليون شخص يحتاجون إلى المساعدة – وهي زيادة نسبتها 17% أو 1.5 مليون شخص عن التقديرات السابقة – هناك نحو 6.4 مليون نازح فى الداخل. وقال إنه (لا يوجد أي تقدم على صعيد وصول المساعدات الإنسانية إلى كل الأشخاص الذين هم بحاجة لها فى سوريا وخصوصا الأشخاص المتواجدين في مناطق يصعب الوصول إليها ). وأوضح أن عدد من يتعذر الوصول إليهم من قبل العمال الإنسانيين ازداد ووصل على الأرجح إلى 4.7 مليون شخص حاليا.
الحالة بالنسبة للعراق أقل حدة، ولكنها تبقى خطيرة بالنظر للتطورات السريعة عقب سيطرة تنظيم (داعش) على عدة مدن ومحافظات. قبل عشر سنوات وعقب الغزو الأمريكى للعراق، وفي ظل المعارك المسلحة التى وقعت بين السنة والشيعة وراح ضحيتها الآلاف من الجانبين نزح الآلاف من العراقيين إلى الدول المجاورة وذهب معظمهم من القادرين إلى أوروبا. ولا تتوافر بيانات محددة عن أعدادهم بالنظر إلى أن الأمم المتحدة لم تتعامل مع أوضاعهم قياسا بالحالة السورية. ولكن عقب اجتياح قوات (داعش) للمناطق السنية، فر الآلاف منهم إلى مناطق أخرى آمنة فى كردستان وغيرها وسط مشاهد إنسانية مفزعة، ومن بقي مكانه أصبح أشبه بالأسير الذي لا حول له ولا قوة وليس أمامه سوى الخضوع للمعاملة والأحكام غير الإنسانية من جانب تنظيم (داعش).
بالمعنى القانوني الدولى ليس كل النازحين فى كل من سوريا والعراق لاجئين، فمن يصدق عليه هذا الوصف هم الذين لجأوا إلى دول مجاورة، وهؤلاء يعيشون فى مخيمات ويتلقون المساعدات والرعاية من جانب وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة. ولكن هناك النسبة الكبرى منهم نازحون إلى الداخل، أي اللجوء بوسائلهم الخاصة إلى مناطق أخرى آمنة، وهؤلاء يقدرون بالملايين بالنسبة لحالة سوريا وبالآلاف بالنسبة للعراق، وقد تصل أعدادهم إلى الملايين فى حالة استمرار الوضع المتفجر في الساحة العراقية. وبعيدا عن التشخيص القانوني، فإنه بحسابات الأمر الواقع هم في نفس ظروف اللاجئين، لأن اللاجئ هو من يترك موطنه قسرا سواء بقرارات من السلطة أو بسبب ظروف حرب أو لفراغ أمني. ولأن التهجير القسري يشكل جريمة ضد الإنسانية وفقا لوثائق حقوق الإنسان الدولية، تتدخل الأمم المتحدة لرعاية هؤلاء إنسانيا، وإذا ما اعترضت سلطة الأمر الواقع او السلطات الرسمية فإن ذلك يشكل انتهاكا من جانبها لقرارات ومبادئ دولية يحتم التدخل الدولى بفرض العقاب.
نقترب من المقابلة بين ما حدث منذ نحو 60 عاما وما يجرى اليوم تحت سمع وبصر كل العرب رسميين كانوا أو شعبيين دون أن يحركوا ساكنا.فمع تزايد أعداد النازحين فى البلدين، تقترب هذه الأعداد من أعداد اللاجئين الفلسطينيين، حيث تشير سجلات وكالة الغوث (الأنروا) إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين بلغ بداية 2013 نحو 5.3 مليون لاجئ. وهذه الأرقام تمثل الحد الأدنى لعدد اللاجئين الفلسطينيين. منهم ما نسبته 17% فى الضفة الغربية مقابل 24% في قطاع غزة. أما على مستوى الدول العربية، فقد بلغت نسبة اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى وكالة الغوث في الأردن حوالي 40% من إجمالي اللاجئين الفلسطينيين، وفي لبنان 9%، وفي سوريا 10%. وهكذا بمرور الوقت تتشكل نكبة عربية جديدة على ضفاف الرافدين، بجانب ما هو قائم في فلسطين. والفارق الجوهرى بينهما أن النكبة الأم وقعت بفعل الاحتلال الإسرائيلي، أى من جانب محتل أجنبي مباشر، بينما النكبة الجديدة تتم بفعل سلطة سياسية داخلية سواء كانت جماعات مسلحة أو سلطات وطنية حاكمة، حيث لا تدخل خارجي هذه المرة، هي نكبة نصنعها بأيدينا، بينما الأولى كانت بأيد خارجية.
ومثلما كان الموقف السياسي هو الداء والدواء في حالة النكبة الأولى، فإنه كذلك في النكبة الجديدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع أنه دائما ليس كذلك، وإنما المقدمات هي نفسها تقريبا، ومن ثم فإن النتائج لاشك ستكون هي ذاتها أيضا. في النكبة الأولى كانت المشكلة حول الهوية وإحلالها بهوية أخرى بالقوة وبتزييف للحقائق مع تواطؤ خارجي سافر واحتكام لمواقف دولية جرى توجيهها لصالح طرف ضد الآخر، وجرى كل ذلك وسط تطهير عرقي وعمليات مسلحة وصلت لدى المعتدي إلى حد الإرهاب. هكذا ادعى الصهاينة أن فلسطين لهم وليست للعرب (تغيير الهوية)، وجاءوا بقواتهم إلى فلسطين لاحتلالها بالقوة وسبقهم لذلك هجرات يهودية منظمة، وكان الدين والعرق وراء الهجمة الصهيونية على البلاد. جمع العرب قواتهم لوقف المخطط ولكنهم هزموا فى ساحة الحرب. وتدخل المجتمع الدولى وقرر التقسيم ولكن العرب رفضوا ذلك فقامت دولة إسرائيل، ولم يكن التواطؤ الدولي بعيدا بل كان صريحا من خلال وعد بلفور، وتسليم بريطانيا فلسطين لليهود. ومن تداعيات ما جرى أن أصبحت هناك مشكلة لاجئين مزمنة لا يبدو في الأفق الأمل لحلها بعد كل هذه السنوات الطويلة. بالنتيجة تغيرت فلسطين بوجود دولة إسرائيل وأصبح ذلك أمرا واقعا، بل قبله العرب واعترفوا به رسميا!
في النكبة الجديدة صراع على الهوية أيضا يهدف إلى تغيير المجتمع والدولة في كل من سوريا والعراق من خلال ما يسمى بالأسلمة السياسية وبمنهج القاعدة. قام تنظيم (داعش) في العراق بإعلان أنه يريد إقامة الدولة الإسلامية في الشام والعراق ورسم حدود هذه الدولة الواسعة. جاءوا بقواتهم وقرروا فرض الأمر الواقع. وجدوا دعما خارجيا لا أحد يعرف على وجه الدقة مصدره ولكنه موجود وإلا ما كانت للتنظيم هذه القوة التي مكنته من خلق سلط موازية للدولة العراقية والسورية أيضا. والتطهير العرقى والديني قائم ولا يمكن إنكاره، فالهدف هو إقامة مجتمعات وحكومات مختلفة تماما. والتواطؤ الدولي لا يمكن إنكاره أيضا، حيث لا تدخل لتصحيح الأوضاع، وإنما غض البصر عما يجرى لأنه يحقق فى النهاية إعادة رسم خريطة البلدين والمنطقة برمتها. وعربيا بدا العجز واضحا، فلا الجامعة العربية فعلت شيئا لمنع الكارثة، ولا النظام العراقى الحاكم قام بدوره، بل كان هو نفسه جزءا من المشكلة بسعيه المستمر إلى أن يجعل الحل طائفيا. والنتيجة – إذا استمرت الظروف القائمة التي صنعت النكبة – هي تحول النكبة من مشروع مفترض إلى حقيقة.فى النكبة الأولى بقي هناك شيء من فلسطين يجرى التفاوض لإقامة دولة مستقلة عليه، وتشكل موقف دولي مؤازر للقضية الفلسطينية التي ظلت قضية العرب الأولى. وبغض النظر عن الفشل فى مسار هذه القضية إلا أن المشروع الصهيوني لم يكلل له النجاح بدليل الإصرار الإسرائيلي على مدى هذا الزمن الطويل على محاولة إقراره.ولكن النكبة الجدية مرشحة بقوة لإقرار مشروعها التقسيمي الطائفي.