شذرات – تقدم للفقير والمسكين

ناصر بن محمد الزيدي -

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما } سورة الإسراء109

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي، ولا لمتأثل مالا) أخرجه الإمام الربيع بن حبيب حديث رقم: (356 ج 1، ص 144)

أي لا تحل الصدقة (الزكاة) لمن كان سليم الحواس صحيح البدن قويا على الكسب والعمل، وإنما يقدم عليه الفقير والمسكين، والعاجز المصاب بمرض يعوقه عن العمل والسعي من أجل كسب قوته وقوت عياله، أوعن السعي الكامل الذي لا يكفي مؤنتة ومؤنة عياله، فمن كان ذا مرة سويا لا يعطى من الزكاة من جهة الفقر والاحتياج، وإنما يعطى إذا كان من جهة أخرى، كأن يكون غريما بسبب دين استدانه لقوت عياله وعجز عن سداده، فحينئذ يعطى له من الزكاة بما يقضي به دينه بشرط أن لا يكون قد أنفق دينه في سرف أو معصية.

وفي رواية الترمذي للحديث استثناء ذي الفقر المدقع ولو كان ذا مرة سويا بلفظ: (إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع) كتاب الزكاة حديث رقم: (653، ج 3 ص 43)

وقال قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف اطفيش رحمه الله، تعليقا على قوله: (ولا لذي مرة سوي)، يعني إلا إن كان ذو المرة السوي مشغولا بأمر من أمور الإسلام كالعلم أو لا يجد حرفة يحترفها، أو لم تكفه حرفته التي يحترفها لما لا بد منه كمسكن ومركب وملبس (شرح كتاب النيل ج 3، ص 304)

فالمرة: هي القوة البدنية، ولكنها لما جمعت في الآية مع شديد القوى تبين أن المراد بها وصف آخر غير قوة البدن، لأن قوة البدن ذكرت في قوله تعالى: { شديد القوى }، ويبدو أن المرة هي بكمال العقل، لكون الله تعالى وصف جبريل عليه السلام في قوله: { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } سورة الشعراء 193/195، والروح الأمين هو جبريل عليه السلام، وكمال الأمانة يوصف بها من كان حصيفا ذا مرة، كما يراد كذلك بذي مرة: اعتدال الخلق وجمال الصورة، وكل هذه الأوصاف جمعها الله تعالى في جبريل عليه السلام في قوله تعالى: { شديد القوى ذو مرة فاستوى }

أما شدة جبريل عليه السلام فقوته معروفة ومشهورة، في كتب التاريخ والسير، لأنه المكلف بتبليغ الرسالات من الله تعالى إلى الرسل من البشر، والمكلف كذلك بالانتقام من أعداء الله تعالى، بما يرسل عليهم من أنواع العذاب، فكل الذين أهلكهم الله تعالى كان هلاكهم على يد جبريل عليه السلام، فهو الذي اقتلع مدائن قوم لوط الخمس، ورفعها على طرف ريشة من جناحه إلى السماء ثم قلبها كما قال الله تعالى: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد } سورة هود 82/83 وهو الذي صاح بقوم صالح، صيحة واحدة فإذا هم خامدون، وفي ديارهم جاثمون، وهذه لوحدها تبين لنا شدة وقوة جبريل عليه السلام، لكونه المكلف بالعذاب والهلاك، ولذلك عاداه اليهود، يقول الله تعالى: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو للكافرين } سورة البقرة 97/ 98

لقد نص الله تعالى في القرآن الكريم على أن اليهود عادوا جبريل عليه السلام، وكذلك ورد أن اليهود سألوا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم عمن يأتيه بالوحي من الملائكة، فقال لهم: يأتيني بالوحي جبريل عليه السلام، فقالوا له ذلك عدونا، ولهذه العداوة أسباب منها: قولهم إن خراب بيت المقدس كان على يد جبريل بإذن الله، وهو الخراب الذي أشار إليه الله تعالى في قوله: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا } سور الإسراء 4/5

وقولهم: إن جبريل أخطأ في نقل الرسالة، فبدل أن يذهب بها إلى بني إسرائيل ذهب بها إلى محمد بن عبد الله وهو من العرب، وهذا من كذبهم وبهتانهم لعنهم الله، هذا الذي جعلهم يعادون جبريل عليه السلام، حتى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، لو جاءتك الرسالة على يد ميكائيل عليه السلام لآمنا أما وقد جاءتك على يد جبريل فلن نؤمن


عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء إن أجبتنا عليها اتبعناك وصدقناك وآمنا بك، قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على نفسه، قالوا: الله على ما نقول وكيل، قالوا: أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة، فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك من الملائكة بالرسالة والوحي، فمن صاحبك، فإنما بقيت هذه؟

قال هو: (جبريل عليه السلام)، قالوا: ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذلك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر تابعناك، فأنزل الله عز وجل: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } سورة البقرة 97 0 أخرجه الطبراني المعجم الكبير حديث رقم: (12429 ج 12، ص 45)

قال الله تعالى: { فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } سورة النجم 7/9، تفسير الكلمات: لقد تقدم صورة عامة لهذه الأوصاف { فاستوى } استوى: استقام على الهيئة الحقيقية { بالأفق }، الأفق: حيث يرى الإنسان السماء وكأنها تلامس الأرض، إما على جبل أو على بر أو على بحر{ دنا } بمعنى قرب، يقول الواحد للآخر: ادن مني، { تدلى } من الدلو، تقول أدليت إذا أنزلت شيئا من مكان عال إلى مكان سافل ومنه قوله تعالى: { فأدلى دلوه } سورة يوسف 19، { قاب قوسين }: يعني قدر قوسين، والقاب بمعنى القدر، تقول: بين كذا وكذا قاب ذراع، والقاب: لفظ مرادف للمقدار

وغالبا ما يستعمل القاب في القوس، والقوس معروف هو آلة لرمي النبال أو السهام للصيد أو القتال، وهو من الأسلحة المعروفة قديما، ولا سيما عند العرب ولما كانت هذه الأسلحة لا تفارق العرب صاروا يقيسون بها، فيقولون مثلا: إن المسافة بين كذا وكذا قيد رمح، أو قيد سوط أو قيد قوس أي مقدار.

وفي الحديث النبوي الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلح الصلاة إلا إذا طلعت الشمس قدر رمح)، وقد اشتهر استمال القوس حتى كان عند الحجازيين يحسب بمقدار ذراع، فقوله تعالى: { فكان قاب قوسين أو أدنى } أي كان بمقدار ذراعين أو أدنى، فمن هذا الذي وصفه الله تعالى بهذه الأوصاف؟.

عن مرة بن كعب بن مرة البهزي، قال: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: (جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مقبولة حتى يطلع الفجر، ثم لا صلاة حتى تكون الشمس على قدر رمح أو رمحين، ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح، ثم لا صلاة حتى تزول الشمس، ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين، ثم لا صلاة حتى تغرب الشمس) أخرجه الطبراني المعجم الكبير حديث رقم (17144ج 15، ص 252).

إنه جبريل عليه السلام وصفه الله تعالى على صورته الحقيقية، التي خلقه عليها، ولجبريل عليه السلام ستمائة جناح (كما صحت الرواية) يسد بها ما بين الخافقين، أي ما بين المشرق والمغرب، يحمل بها ما شاء، كما حمل مدائن قوم لوط عليه السلام على طرفي جناحه إلى السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، لم تذكر الروايات شيئا عن طوله وعرضه وحجمه