صراع بين العشاق أم حوار بين الحضارات؟ -
ختام استثنائي لموسم دار الأوبرا السلطانية -
عاصم الشيدي -
بدا الرقص متخما بالوجد والحب الصوفي، وبعذابات الدراويش وهم يدورون في فلك الكون، فيما كانت الموسيقى الساحرة تتناغم مع إضاءة المسرح لتشكل عالما آخر يكشف كل تفاصيل العذابات التي يعيشها العشاق وهم يهيمون على وجوههم من فرط الحب.
وكان المكان الذي تسير فيه نجمة الحفل المعشوقة أشبه بقصور الأندلس.. يمكن أن يكون قصر الإمارة في قرطبة أو قصر الزهراء.. أو قصر الحمراء في غرناطة كما يمكن أن يقرأ متأمل في المشهد الذي تصنعه ديكورات عمق المسرح والسينوغرافيا بشكلها الكلي. الشكل الكلي الذي جسد تفاصيل حسناء ـ هل كانت هي الأندلس، او واحة الأمن والأمان ـ كان يتنافس على حبها وعشقها ثلاثة شخوص كل منهم يحمل جانبا لا تستطيع أن تتركه ولا يوجد في الآخر.. حتى وجدت نفسها تسير باتجاه المطلق حيث تتناغم الأشياء في بعضها.
إنها عتبات وعذابات حفل “أنوار الأندلس” الذي أحيته الفنانة العالمية هبة القواس على مدى ثلاثة أيام كان آخرها مساء أمس. وهو ما اختتمت به دار الأوبرا السلطانية موسمها الخامس.
كان الحفل كما أكد الكثير من المتابعين له مسك الختام، ووفقت دار الأوبرا السلطانية أن اختتمت به موسمها حتى يبقى مشوقا لمنتظري الموسم السادس الذي كشف برنامجه الأسبوع قبل الماضي.
وإن كان يمكن قراءة تفاصيل حفل موسيقي راقص، فإن حوار الحضارات هو اول ما يمكن قراءته فيه. كان ثمة حوار بين الشرق والغرب، بين حضارتين اثنتين، أو بين حب تتجاذبه حضارة شرقية وأخرى غربية. وكل يجذب ذلك الحب بأجمل ما يملك من فلسفة روحية ومن سحر يغري به ويستميل النجمة الخرافية.
كانت نجمة الحفل، هبة القواس، تغني حبها المتأرجح بين ضفتين تتقاذفها أمواج الأنغام العربية الأندلسية تارة، وتجذبها طورا إيقاعات الفلامنكو الإسبانية، في إشارة لا يمكن إغفالها لتفاعل الحضارة العربية مع المكان الذي استقرت فيه وما يملكه ذلك المكان من معطيات حضارية سابقة استطاعتا أن تشكلان إحدى أهم مراحل الحضارة الإسلامية.
كانت القواس تغني العَالمين بالحب نفسه، لكنها كانت تتوق إلى المطلق.. المطلق الذي تتكشف فيه الأمور بتجريدها.. تمتزج عناصر الموسيقى والغناء والرقص بحيوية فائقة على خشبة المسرح، حيث يبدو أن الشغف وحده يدير اللعبة، ويحرك الخيوط بأنامل وخطوات وأوتار سحرية. حب تملك وغِيرة تعكس نبض الفنانين الذين يتنافسون على قلب النجمة، بين عازف الجيتار الإسباني “العالمي خوسيه ماريا” الذي غلف روحها بموسيقاه، وعابر السبيل “المغني السعودي عبدالرحمن محمد” الذي حرك أشجانها بصدى صوته الحنون، والراقص “خوسيه مالدونادو” الذي جذبها بلغة جسده النارية. أما هي فبقيت تبحث عن الحب الأمثل الذي تكشف سره في كل خطوة ترسم الطريق إليه. هذا هو البعد الدرامي في “أنوار الأندلس” وحول هذا البعد دارت الكثير من الموسيقى التي شاركت فيها فرقة أنسامبل عربي أندلسي ومجموعة الغناء العربي الأندلسي المنفرد، وأنسامبل فلامنكو ومجموعة الغناء الفلامنكو المنفرد، بمصاحبة اوركسترا ترنسيلفانيا الفلهارمونية بقيادة جون اكسيلرود.
أعطت الأشعار التي أحسنت هبة القواس اختيارها بعدا استثنائيا للحفل، كانت تخرج من صوت القواس الأوبرالي وكأنها تخرج من قرون بعيده جدا كانت فيها حضارة الأندلس تشع بأنوار حضارتها على كل مكان. دخلت القواس إلى المسرح بقصيدة للشاعر عبدالعزيز خوجه:
“لي هذا الكون وما فيه
أدخله من حيث أشاء
بابا بابا
إلا أني يوما ما ضيعت طريقي
نحو الباب الأسنى
وسلكت يبابا
من يأخذ مني كل مفاتيح الطلسم
كي يعطيني ذاك المفتاح
كي أرجع طفلا تغسله
الملأ الأبرار
كي أهتف يا مولاي
كل الأبواب لغيرك كانت وهما وسرابا
إلا بابك أنت”.
كان المشهد العام يبدو فعلا وكأنه في أحد قصور الأندلس، وأحيانا في أحد جناتها، جنة العريف أو جنة السرو في قصر الحمراء.
يقترب الراقص الذي سحر جسده قلب النجمة التي كانت تشدو بقصيدة لندى الحاج:
“ارقص في حلبة النار
كنسر ينتفض مرسالا إلى سابع سماء
تكوم حول الفرح
ولا تكتم سرك
لأنك أشعلت قلبك
ودخانه يحيى”.
واستمر التنافس والحوار بين النجمة وبين عشاقها شعرا بشعر ورقصا برقص ووجدا بوجد.. فيما كان الجيتار وموسيقى الفلامنجو تخطف كل محاولات عابر السبيل ليفوز بقلب النجمة وحده.
إلى أن وصلت ذروة الصراع في قصيدة “أنا العاشق” لعبدالعزيز خوجه:
“أنا المجذوب والمجنون والعاشق
أنا الدرويش لا شاك ولا أبق
أنا الشريد، لا المطرود، لا المارق
أنا الباكي على الأبواب، لا السارق
أنا الشحاذ هل من يسمع الطارق؟
أنا المأخوذ في عيني كالبارق”
عابر السبيل مفاجأة أخرى
كان صوت السعودي عبدالرحمن محمد الذي قام بدور “عابر السبيل” أحد مفاجآت “أنوار الأندلس”، بدا صوته الحجازي واعدا بفنان يعد بالكثير من الإمكانيات، والمفاجأة أنه أداءه الدرامي كان رائعا أيضا، واستطاع أن يتقمص دور عابر السبيل في الوقت الذي استطاع أن يقنع كثيرا بغنائه الدافئ. كان يقترب من نجمته التي تيمه حبها وينشد لطرفة بن العبد بصوت وكأنه قادم من زمن الحب العذري:
“وأمّر ما لقيت من ألم الهوى
قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
يا بدر كم سهرت عليك نواظر
يا غصن كم ناحت عليك بلابل”.
لكن النجمة كانت تبحث عن المطلق، عن حب يجمع كل الاختلافات، عن حب يجمع الشرق والغرب، وسحر الجسد المعذب والمعنّى.
فترد عليه النجمة/ القواس مباشرة بقصيدة لهدى النعيمي مليئة بالتردد وعدم وضوح المشهد:
” وأحبك
أقترب أم أبتعد عنك
أحبك
أأضمك أم أهرب منك
أحبك
أأبكي وحدتي
أم أسكر الليل في سكناي بك
أحبك”.
ثم تعود وتخاطب الجميع مرة أخرى بنص آخر لندى الحاج:
“حيث تأخذنا الريح
تعالوا لنفرد النسمات على امتداد الروح
لنلف الكون بالوجد
قبل أن تختفي الأرض وتجف مياه العيون
تعالوا لنحصد الأماكن باقات
لنكمش التراب زمردا وياقوت”.
وتستمر الحواريات بين محبي وعشاق النجمة، “عابر سبيل” بأعذب ما قالته العرب في الحب والوجد، من “بلغوها إذا أتيتم حماها، أنني مت في الغرام فداها” إلى آخر “والله ما طلعت شمس ولا غربت، إلا وحبك مقرون بأنفاسي، ولا جلست إلى قوم أحدثهم، إلا وأنت حديثي بين جلاسي، ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا، إلا وأنت بقلبي بين وسواسي، ولا هممت بشرب الماء من عطش، إلا رأيت خيالا منك في الكاس” فيما يبدو عابر سبيل قد وصل إلى أقصى درجات عذابات الحب ولوعته. وبين عازف الجيتار الذي يفاجئونا بقصيدة بعنوان “أغنية الحب”:
“تتطلبها الحياة
وتوقد نيرانها السعادة
تموت إن اهملها أحدهم
وتحيى ما دامت تنمو”
وبين الراقص الذي تجنن النجمة التواءات جسده الذي يقول ما يقوله الشعر. بل إن رقصه كان وحده قصيدة عذرية، ولكنها مليئة بالإغواء.
يكشف العمل في مجمله محاول جادة من هبة القواس في رسم صورة للتمازج الحضاري الذي يمكن أن تخلقه الثقافة والفنون في إطار من الحب وما يمكن أن يشكلانه من سحر كما حدث في حضارة الأندلس.. في وقت كثر فيه التخندق والتمذهب، وبرزت فيه الطائفية كما لم تظهر من قبل. استطاعت أن ترسم القواس في عملها هذا أندلسا جديدة، لم تستدع الأندلس من زاوية سرد التاريخ ولكنها استحضرتها من زاوية تركيب التاريخ لقراءة مشهد آني يمكن أن يرسم صورة للمستقبل. والعمل بهذا الشكل وهذا المعنى سيكون له حضور في مختلف عواصم العالم.