الرأسمالية تمهد للحرية ولكنها لاتضمنها

بانكاج ميشرا – ترجمة قاسم مكي – بلومبيرج -

مرت احتجاجات الذكري الخامسة والعشرين لأحداث ميدان تيانينمين في الرابع من يونيو دون أن تحظى بانتباه كبير في الصين. وينبغي أن يُوجَّه اللوم إلى الطبقةِ الوسطى الصاعدة والمشغولة بنفسها على هذه اللامبالاة المحزنة تجاه فظاعات كريهة (كان قد شهدها الميدان قبل ربع قرن)بذات القدر الذي يمكن أن تُلامُ به رقابةُ الدولة. ولكن هذا ليس الخبر الوحيد الذي أيقظنا مؤخرا من غفوتنا نحن أولئك الذين نحتفي بالحرية وبأفضل الوسائل السياسية (المشاركة الشعبية في الحكم) لتأمينها. لقد انهارت التجارب الديمقراطية في تايلند وسواها من البلدان. فطبقاتها الوسطى تدعم الآن علنا حكاما عسكريين شهدنا صعودهم آخر مرة في أعوام الثمانينات. ويبدو أنه يوجد في أوساط النخب المالية والسياسية حول العالم إجماعٌ عريض إلى حد الإرباك بأن (التعددية مدعاة إلى الانقسام ولاقيمة لها وخسارة للموارد وأننا نحتاج إلى شخص حازم بما يكفي للتعرف على الصالح العام وخدمته) حسبما ذكر محلل مصري لصحيفة الفاينانشال تايمز اللندنية. كما حثّ مستثمرٌ معروف جيدا رئيسَ الوزراء الجديد في الهند في مقال له بصحيفة إيكونوميكس تايمز، كبرى الصحف الاقتصادية في البلد بقوله (أحكمنا، أحكمنا بشدة، أحكمنا بقسوة، ولكن بِرِبِّكَ امنحنا نموا حقيقيا ودخلا، الوسائل ليست مهمة، نحن نريد فقط نهايات سعيدة.) بل حتى مجلة الإيكونومست اللندنية زعمت أن (قادة الصين أمكنهم معالجة بعض المشاكل الكبيرة في عملية بناء الدولة ربما كان سيستغرق حلها عشرات السنين في بلد ديمقراطي). إن تفشي الشوق إلى الحكام ذوي النجاعة والفعالية في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي (لاقتصادات بلدانهم) من أمثال دينج تشياوبينج وسوهارتو والجنرال أوغسطينو بينوشيه ليس هو تلك النهاية السعيدة، التي تصورها العديدُ من المعلقين، لسقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية عام 1989. وفي مقال نُشر مؤخرا في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، أقرَّ فرانسيس فوكوياما أن فكرته الشهيرة والقائلة أن التاريخ قد (ينتهي ببلوغ الحرية) قابلة للمراجعة. صحيح أن النمو الاقتصادي عبر التصنيع أحدث تغييرا في البناء الاجتماعي للمجتمعات وأوجد طلبا على التمثيل السياسي. ولكن من الواضح الآن أن تلك العملية قادت أيضا إلى نقيض الديمقراطية الليبرالية. ويعترف فوكوياما أنه لم يولي اهتماما كافيا ( لتشابك السياسة والاقتصاد) أو إلى حقيقة أن الفقر الشديد والاستقطاب الاجتماعي يمكن أن يعرقلا بناء المؤسسات المطلوبة للنمو الاقتصادي. أيضا أثبتت التقنية أنها (متقلبة في توزيع منافعها). وإنصافا لفوكوياما فإن الاتجاهات المتناقضة للعولمة (ثراء مذهل يترافق مع فجوات متسعة في الدخل والفرص) لم تكن واضحة في عام 1989. ورغما عن ذلك فإن عددا قليلا من المفكرين المتحررين من الأوهام كانوا قد توقعوا، حتى قبل ذلك التاريخ، التحديَ الذي يواجه بناء واستدامة الديمقراطية الليبرالية على خلفية فوضوية من النمو غير المتساوي واللامساواة المتزايدة والاضطرابات الاجتماعية. لقد كان ريمون آرون، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي(1905-1983) وأميز أعضاء هذه المجموعة الصغيرة، متشبثا بموقفه ضد الشيوعية في عصر كان يَجِلُّ فيه العديدُ من المفكرين الفرنسيين البارزين الاتحادَ السوفييتي وصينَ ماوزيدونج. فهو كان يرى أن الأسواق الحرة والرأسمالية الصناعية لاغنى عنهما لتأسيس مجتمع حر وعادل. وهما معا لايصنعان الثروة فقط ولكنهما أيضا (خصوصا في البلدان التي تثقل كاهلها تراتباتٌ هرميةٌ وطيدة) أوجدا أوضاعا تعين علي التقليل من عدم المساواة الإجتماعية والاقتصادية وعلى إتاحة الفرص للشعوب التي كانت محرومة في السابق. وفي ذات الوقت أدرك آرون أن التصنيع أوجد تراتباته الهرمية الخاصة به، وذلك قبل فترة طويلة من أيام عِزِّ التلزيم (التلزيم هو إسنادُ شركات أداء جزء من عملياتها الإنتاجية لشركاتٍ أخرى- المترجم) والقيمة المُحَقَّقة لحملة الأسهم والمكافآت الباهظة (لمديري الشركات). فالناس يُكافأون بطريقة غير متساوية على خدماتهم. إلى ذلك فإن المطالبات بقدرأكبر من المساواة الاقتصادية تتزايد بوتيرة أسرع كثيرا عن وسائل الإيفاء بها. لقد شَخَّصَ آرون مشكلةً أعمق في العالم غيرالغربي الذي واجه، في وقت متزامن، المهامَ الشاقة لبناء دولٍ وطنية قوية واقتصادات صناعية من جهة وإرضاء التطلعات الديمقراطية للشعوب المُسَيَّسَة حديثا من جهة أخرى. وكتب في مؤلفه (أفيون المثقفين) (خلال الأعوام تلك المديدة حين كان سكان المجتمع الصناعي يتزايدون بسرعة وتتعالى مداخن المصانع في الضواحي ويجري إنشاء خطوط السكك الحديدية والجسورلم تقترن معا، في أي مكان في أوروبا، الحريات الفردية وحق الانتخاب العام والنظام البرلماني). وكان التضافر الوثيق بين السياسة والاقتصاد في دول ( لم تخرج بعد من حالة الفقر الاقطاعي) حدثا غير مسبوق وتجربة حافلة. لقد كان في مقدور آرون ومنذ أعوام الخمسينات تصور إغراءات تَبَنِّي الوسائل الاستبدادية في آسيا وإفريقيا حيث اصطدم البحث عن النمو الاقتصادي السريع باطرادٍ مع الواجب الأخلاقي والسياسي في إتاحة الحريات الفردية. ولم يكن يرى قيمةً في الحلول المستوردة سواء أُستمِدَّت من التقاليد الثورية الفرنسية التي تتطلب خضوعَ الناس لأشد الأنظمة صرامة باسم الحرية القصوى) أواللهفة الأمريكية على قبول ومواجهة التحديات والتي ( تبث تفاؤلا غيرمحدود وتسىء إلى الماضي وتشجع على تبني مؤسسات هي نفسها مدمرة للوحدة الجماعية.) لقد كان من شأن آرون أن يكون متشككا في الإيمان الأمريكي بالنهايات السعيدة كذلك الإيمان الذي يؤكد عليه فوكوياما حين يكتب (يجب ألا يراودنا شك حول نوع المجتمع الذي يتموضع عند نهاية التاريخ.) كما أقر آرون أيضا بانفجارالطلب حول العالم على الحريات الفردية والمساواة والكرامة (التي حلت محل مبدأ الإخاء). ولكنه أدرك أيضا أن النمو الاقتصادي أحدث تحولا في مشكلة التراتبية الهرمية القديمة بدلا عن حلِّها وأن هَوَسَا بالنمو كهدف في حد ذاته يقود بكل سهولة إلى الاستبداد الشعبوي على حساب الحرية الفردية.

* الكاتب مؤلف كتاب ( من أنقاض الإمبراطورية: المثقفون الذين أعادوا بناء آسيا).