هبة القواس تسرد رؤيتها الموسيقية لعالمين.. شرقي وغربي

تجلّت.. فنظرت.. فأبدعت -

تعلمت التجويد.. وفي الرابعة ألفت أول مقطوعة موسيقية -

متابعة ـ عاصم الشيدي -

كانت الفنانة والمؤلفة الموسيقية هبة القواس في شهورها الأولى عندما اكتشفت والدتها أن ما يمكن أن يشفي أوجاعها الطفولية ليس أقل من سماعها للموسيقى الكلاسيكية.. فكان أن استبدلت والدتها أدويتها بأسطوانات موسيقية لبيتهوفن وبرامس، تلك الموسيقى تسللت لاحقا في تكوينها النفسي والروحي وفي بناء شخصيتها مع الأيام.


ووجدت القواس نفسها تكبر في حضن الموسيقى وفوق بساطها الطائر.. وفي عمر السنتين والنصف كانت الطفلة المغرمة تعزف على البيانو وفي سن الرابعة تؤلف الموسيقى وتحيي أول حفلة من حفلاتها.. وتتعلم كذلك تجويد القرآن الكريم وتحصد فيه عدة جوائز.

كانت القواس تسرد هذه التفاصيل وحيثيات علاقتها بالموسيقى والموسيقى الأوبرالية مساء أمس الأول في حوارها مع مجموعة من الكتاب والمثقفين والأدباء في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.

ورغم أن عنوان الفعالية كان حول الأبعاد الثقافية والإنسانية في تجربة هبة القواس الأوبرالية إلا أن المحاضرة أخذت بشكل كبير منحى الحديث حول أبعاد التجربة الموسيقية في العالم العربي والعالم الغربي وتحديات الجمع بينهما في مزج واحد. وبدت القواس تحمل هذا الحلم كما قالت في حديثها منذ سنوات مبكرة من عمرها حينما شغلتها ثنائية الموسيقى الغربية، والموسيقى العربية وكيف يمكن الجمع بينهما.

وقالت القواس إن الموسيقى العربية تسللت في لا وعيها منذ الميلاد، مشيرة أننا نولد في عالم نرث لا وعيه الجمعي “وأنا ورثت لاوعي الموسيقى العربية، لكن في مقابل هذا بدأت أسمع الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا، لكن بقي الشرق يدهشني، ويأخذني إلى عمقه ورحلته بكل أبعادها، حتى فهمت لاحقا أن لهذه الرحلة أبعادها الروحانية.. وهو منطقة يشع فيها النور حيث ولدت الأديان وبدأت رحلة التصوف.. وهو ما انعكس على الموسيقى وعلى ايقاعها”.

لكن دهشة القواس لا تنتهي فهي كذلك مدهوشة بالموسيقى الغربية وبصوتها الكبير وبنبضها.

وهبة تحب أسمهان لكنها أيضا تندهش كثيرا عندما تسمع ماريا كالاس، هذه الثنائية وهذه الدهشة التي صاحبت تجربتها ألحت عليها كثيرا في محاولة الجمع بين التجربتين.

وأوضحت رحلة هبة القواس العلمية لها بشكل جلي أن لكل عالم موسيقي روحه وتقنياته ولا تكفي الموهبة وحدها مهما كانت للجمع بينهما، ولا بد أن يصاحب الموهبة فهم علمي بطبيعة كل تجربة. معتبرة أن العلم وحده أيضا لا يكفي ولا بد أن تجتمع التجربتان: العلم والموهبة، على أن تكون الأخيرة قابلة لوضع العلم جانبا في لحظة ميلاد الإبداع.

ودخلت هبة القواس خلال حديثها في جوانب تقنية وعلمية أكاديمية في التفريق بين الموسيقى العربية والغربية وفي آلية خروج الصوت في الغناء العربي والغربي.

وهو ما قادها للحديث عن الفرق الكبير بين الغناء الأوبرالي باللغة العربية وبين الأوبرا العربية التي يجب أن تكون منطلقة من تفاصيل مقومات اللغة العربية ومن امكانيات الموسيقى العربية.. نظرا لخصوصية الحرف العربي وإيقاعه. قبل أن تعود لتقول “علينا أن لا نذهب إلى الأوبرا الغربية ولا أن نأتي بها إلى شرقنا ولكن لا بد من جمعهما معا والذهاب بهما إلى مكان آخر من أجل أن يحدث التمازج الذي لا ينتج موسيقى قلقة ومرتبكة”.

وفي حالة تشبه التجلي قدمت القواس بعض المقطوعات الغنائية الأوبرالية في محاولة لتبيان الفرق بين مخارج الصوت العربية والغربية.

ولم تترك القواس فرصة للمستمعين لتصنيفها في خانة الموسيقيين الغربيين فكانت تؤكد على الدوام أنها متشربة بالموسيقى الشرقية بكل تجلياتها، بل أنها تذهب إلى القول أن الشرق جعلها تعيد صياغة الكثير من الأشياء من دون الاستغناء عما عندها.. “جعلني أنصهر فيه أكثر مع حضور الموسيقى الدرامية والأوبرالية العميقة بطابع عربي. ويمكن القول إن تجربتي مع العالم العربي جعلتني أتواصل معه أكثر وأغوص فيه لأقدم موسيقى عالمية خارجة منه دون استيراد”. وهو ما جعلها تؤكد أيضا أن موسيقاها بهذا الوصف قادرة جدا على التواصل والاقتراب من الناس دون ان تلغي الطابع الدرامي العميق الذي هو أحد مقومات الموسيقى الأوبرالية.

ورغم أن هبة القواس ألفت أوبرا باللغة العربية وغنت كما تقول بمختلف اللغات إلا أنها تصف قدرتها على التلذذ باللغة العربية، رغم أنها أكدت غير مرة أن العربية أصعب في إصدار الصوت أوبراليا بسبب طبيعة الحروف التي تخرج من الحنجرة مثل الحاء والعين، وإن ظلت تقنية الصوت تتطلب أن يصدر الصوت من الخدود والرأس لفتح إمكانيات الصوت.. وهذا ما جعلها بحسب المحاضرة تبحث عن الوضعية الأنسب لحمل الحرف العربي لمساحات صوتية واسعة وطبقات عالية من دون تشويه مخارج الحروف العربية ومن جهة أخرى من دون كسر الصوت من هذه التقنية يجب ألا تكون تماما تقنية غربية ولا الحنجرة الشرقية التي تستعمل حاليا.. ولذلك سعت القواس إلى تبسيط الحرف صوتيا من دون تضخيم أو تفخيم أوروبي وهو ما يجعل الحرف سلسا.

لكن القواس تعود وتصر على أن هناك فرقاً كبيراً، أو أنها هي تفرق بشكل كبير بين تجربة الأوبرا العربية وبين تجربة الأوبرا بالعربية، فنقل الأوبرا من الغربي إلى العربي ترجمة لأي أوبرا معروفة عالميا لا يجعل منها عربية لأن النص الموسيقي والفكري الذي كتب الأوبرا هو غير عربي، ولهذا تجد أن النص الغربي يمتلك صفاته الخاصة.

وتحدثت هبة القواس عن تأثرها بالإرث الصوفي، لكنها قبل ذلك هي متأثرة بما تأثرت به الموسيقى العربية وبالفلسفة التي شكلتها بدءا من التراتيل السريانية والبيزنطية وهذه الأخيرة تأثر بها الترتيل القرآني وليس انتهاء بالمقامات الموسيقية. وذهبت القواس إلى القول أننا في الشرق شعب واحد لكننا انتقلنا من دين إلى آخر.

وتواصل الحديث في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء مع هبة القواس لحوالي ساعتين، وهي مساحة زمنية اقتطعتها القواس تلبية لدعوة الجمعية، لتعود بعدها إلى تدريباتها في دار الأوبرا العمانية حيث تضع اللمسات الأخيرة على حفلها الكبير “أنوار الأندلس” الذي من المنتظر أن تبدأ أولى عروضه مساء غد الخميس.