الحقيقة الضائعة بين السيف والقلم

عاصم عبد الخالق –

assem@ahram.org.eg –

أطلق الهجوم الإرهابي على صحيفة تشارلي ايبدو الفرنسية موجة محمومة من العداء للإسلام في الغرب عبرت عن نفسها في وسائل الإعلام ومن خلال الفعاليات السياسية والثقافية، والتظاهرات العامة في الشوارع. كل هذا كان متوقعا، وكان طبيعيا أيضا في ذروة الغضب أن ينسى كثيرون أو يتناسوا أن الكلمة مسئولية، وأنها تفرض على من يتصدى لها التزامات أخلاقية أهمها احترام معتقدات الآخرين.


غير أن هذا الرؤية الأحادية المنددة «بإرهاب المسلمين» الذين يردون على الكلمة بالرصاص، لم تكن لحسن الحظ هي الرؤية الوحيدة على الساحة. كثير من العقلاء والمنصفين تصدوا لهستيريا الغضب من المسلمين والهجوم عليهم. من هؤلاء الصحفي الأسترالي كوري اواكلي المعروف بتأييده الشديد للقضية الفلسطينية. وهو يعتقد أنه من الخطأ الفادح التعامل مع الحادث بصورته المبسطة باعتباره هجوما مسلحا لمجموعة من المسلمين على صحيفة تنشر رسوما مسيئة للرسول. ويرى أنه يجب النظر الى الحادث في سياق تاريخي وسياسى أشمل للعلاقات الغربية مع العالم الإسلامي.

في مقالته بعنوان «شارلي ايبدو ونفاق الأقلام» يرد اواكلي على الادعاء السائد بأن الغرب يواجه «الإرهاب الإسلامي» بالأفكار والأقلام. وهو يعتبر ذلك الادعاء كاذبا تماما لأن الغرب يحارب العالم الإسلامي والعربي بالسيف والقلم معا. يقصد أن القوة بالعسكرية كانت حاضرة دائما في العلاقات الغربية – الإسلامية، مع حرب الأفكار المصاحبة لها.

ولذلك فهو يؤكد أن الادعاءات الحالية بأن الحضارة الغربية تواجه التطرف الإسلامي بالأفكار هي ادعاءات تكشف حالة من فقدان الذاكرة سياسيا وتاريخيا.

يشرح اواكلي فكرته بالقول إنه خلال العقد والنصف الأخير شنت الولايات المتحدة، مدعومة بدرجات مختلفة من الحكومات الغربية، هجمات مدمرة ومتواصلة على أنحاء شتى من العالمين العربي والإسلامي. وأن تلك الهجمات بلغت من وحشيتها أنها خلفت دمارا لا نظير له في العصر الحديث.

الكلام إذن عن حرب أفكار أو أقلام لا معنى له، لأن تلك الأقلام ليست هي ما مزق العراق وأفغانستان وغزة، وقتل وأصاب وشرد الملايين. هؤلاء الضحايا كما يقول الصحفي الأسترالي يجب النظر إليهم كبشر لهم قصص إنسانية وعائلات، ومن بقي منهم على قيد الحياة سيعيش حزينا على فقد الكثير من أحبائه، هذا غير آلاف المنازل التي دمرت.

الغرب يستخف بالحقيقة.. هكذا يؤكد الصحفي الأسترالي وإلا كيف يتجاهل كل هؤلاء الضحايا في المنازل التي دمرتها الطائرات الأمريكية في العراق، وهؤلاء الذين تشوهت أجسادهم بفعل الفسفور الأبيض واليورانيوم المستنفد. وكيف يتجاهلون الأطفال الذين اختفى آباؤهم في زنازين سجن أبو غريب في العراق. ثم بعد كل هذا يأتي من يقول إن الحضارة الغربية تدافع عن نفسها بالقلم.

يواصل الصحفي الأسترالي تفنيده للادعاءات الغربية عن طبيعة المواجهة مع العالم الإسلامي باعتبارها نوعا من «الحرب الفكرية بين قوى الظلام الإسلامية ودعاة التنوير الغربيين». وهو يعود ويؤكد أن عشرات السنين من الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي خلفت تجمعات هائلة في حالة فقر. وأن هذا الاستعمار حكم تلك البلدان بالحديد والنار. وفرنسا التي وقع الحادث الأخير على أراضيها ليست استثناء بالطبع ولها ضحايا بمئات الآلاف من أبناء الشعب الجزائري، كما أن المهاجرين الجزائريين فيها يعانون من الاضطهاد والقمع واليأس.

إجمالا فإن تاريخ العلاقات الغربية مع العالم الإسلامي هو تاريخ الاستعمار والهيمنة والاحتلال والاستعباد والحرب. وهذا التاريخ لابد أنه يصرخ احتجاجا على الفكرة البراقة، ولكن الكاذبة، التي تقول إن القيم الغربية ترفض العنف والإرهاب كأدوات سياسية. لا يعنى هذا أن القلم لم يكن له دور، فقد شارك بقوة وفاعلية في هذه المعركة. ولا يجب أن ننسى الأقلام التي وقعت المرسوم الوطني «باترويت اكت» في الولايات المتحدة الذي خصم من رصيد الحريات الشخصية بدعوى محاربة الإرهاب. وهناك تشريعات غيره قلصت الحقوق المدنية ووفرت حصانة لتجاوزات الشرطة.

هناك أيضا أقلام الصحفيين ورسامي الكاريكاتير الذين اشعلوا موجة تلو الأخرى من هستيريا الكراهية والخوف من كل ما هو إسلامي. هذه الأقلام كانت قوية ومؤثرة في خدمة القوة الغربية وآلة الحرب.

المشكلة الخطيرة التي يخلقها هذا الوضع لا تكمن فقط في نفاق هؤلاء الذين يختلقون قصصا حول «التنوير الغربي الذي يدافع عن حرية التعبير مقابل همجية المسلمين». ولكن انكار حقيقة العدوان الغربي الصارخ واستمرار مظالم المسلين يعنى أن أعمالا إرهابية جديدة يمكن أن تقع في أي وقت وليس بالإمكان تحاشيها.

من هنا فإن التعامل مع الحادث الأخير بأنه ليس أكثر من رد فعل إرهابي أحمق على رسوم مسيئة للإسلام، هذا التعامل يعكس عجزا كاملا عن فهم حالة القمع الدائم والمنهجي الذي يتعرض له المسلمون على أيدى الغرب.

لذلك فإن الشيء الاستثنائي هنا ليس هو وقوع مثل تلك الهجمات الإرهابية بل عدم تكرار حدوثها مرات أكثر، وهو أمر يحسب للمسلمين عامة (والكلام للصحفي الاسترالي). ذلك أنه من بين كل هذه الأعداد الغفيرة من المسلمين لا توجد سوى أقلية محدودة فقط هي التي ترتكب هذه الأعمال في مواجهة استفزازات بلا نهاية.

أما ما سيحدث بعد حادث تشارلي ايبدو فيجيب الصحفي الأسترالي أنه لا يتوقع شيئا جديدا ولا مفاجئا. سيواصل القادة الغربيون العزف على لحن حرية التعبير، بينما يمضى القادة المسلمون في إدانة الحادث والإرهاب عموما، مع استمرار الاتهام الغربي لهم بأنهم لا يدينون بما يكفي من القوة. وسيواصل اليمين مهاجمة اليسار واتهامه بالتعاطف مع «الإرهاب الإسلامي». ولكن ماذا عن المسلمين في الغرب، كيف سيتصرفون؟ هنا يعتقد اواكلي أنهم قد يفكرون في تنظيم مسيرات في الشوارع، إذا كانوا يجرءون على ذلك، للتأكيد على سلميتهم، وخوفا من عمليات انتقامية مجنونة ضدهم. وفي هذه الحالة لن تكون الأقلام هي ما يخشونه.