القدس – أم شادي الطوس.. رحيل شتوي إلى البياض

في زاوية أقلام وآراء كتب عيسى قراقع، مقالا بعنوان: أم شادي الطوس.. رحيل شتوي إلى البياض، جاء فيه:

بعد عام من غيبوبتها البيضاء رحلت أم شادي زوجة الأسير القائد محمد الطوس الذي يقضي 30 عاما في سجون الاحتلال، تركت خلفها ثلجاً ومطراً ورياحاً تنادي الجهات الخمس في الدنيا، لعل معجزة أخرى توقظها من نومها الطويل لترى أن حلمها هو حلمها، وان الواقع أقوى من الخيال وعنجهية السجان، وسرمدية الموت المتمهل في السجون.

بين أصابعها العشر شتلة نعنع من قريتها الجبعة، وألف شجرة تمشي في موكبها من البيت إلى المقبرة، وأنا من شاهد السماء تقترب برعودها وبروقها، وكان مطراً دافئاً يبلل الأرض والناس والصلوات المورقات في وداع أم أطلقت فينا روح الآيات وينابيع التراب.

صافحتنا واحداً واحداً، ووقفت أمام بوابة سجن ريمون تنتظر عودة زوجها الذي اعد عمره وقلبه وقصائده للخروج إليها، وقفت حتى غابت الشمس، وقررت دولة إسرائيل النووية إن محمد الطوس لن يفرج عنه في أية دفعة قادمة.

وقالوا إن هناك خطر يهدد السلام العادل ودولتهم الممتدة من البحر إلى النقب، بسبب وجود امرأة قادرة على التنبؤ بالقادمين والعائدين، وقادرة على تخصيب الزمن وشد النطاق وإنجاب الفرسان ومخاطبة السجان إذا اشتد الجفاف، وان هذه المرأة تشبه الفكرة، وتملك أسباب الحياة في ذاكرة المكان.نزلت أم شادي إلى السوق، اشترت ما تحتاجه لليوم التالي، مصدقه تماماً أن محمد الطوس سيفرج عنه مع ثلاثين أسيرا دفعوا ثمناً اكبر مما انفق من موت على سلام تمخض عن سجون ومستوطنات وأموال دول أطالت عمر الاحتلال ومنحته جمالاً على طول جدار حولنا، وجمدتنا مبتسمين أمام حاجز ينظم خلايا مرورنا من دمنا إلى عقلنا.

ثوب فلاحي برسم الورد، بدلة كحلية وكرافة للأسير العائد، حذاء جديد ، البوم تاريخي لصور البيت المهدوم، أم شادي ترفع الطوب والاسمنت وتتحدى الجرافة، صور أطفالها الصغار يكبرون رويداً رويدا، أصبحوا الآن في الجامعة، ملابسه القديمة لا زالت في الخزانة، رائحته وأنفاسه وسجائره وحطته الرقطاء، خطواته إلى الدوالي في الصيف لم يمسها الوقت، خبأتها أم شادي بطين يديها، وأوصت التراب أن لا يشيخ ويسافر في الغبار…قبل ثلاثين عاماً جاءها النبأ أن محمد قد قتلوه مع رفاقه في ذلك الكمين العسكري، صراخ في الوادي ورصاص يمزق جبال الخليل، لكنها لم تصدق أن محمد الذي أصيب بوابل من الرصاص قد ظل حياً، عاد من الموت إلى أم شادي، صافحها قائلاً: لن نموت متفرقين، فاحملي حياتي لأحمل حياتك، الطريق أمامنا واضحة، القدس وعذابات اللاجئين. في كل زيارة كانت أم شادي تضع حجراً لليوم التالي، تزرع شجرة وتضيء قمراً، محمولة بالأمل الضوئي، تستمد من طاقة زوجها الفدائي هذا الاشتعال العجيب لإضاءة الليل واليأس، وتمضي من حاكورة إلى حاكورة، ومن صبح إلى آخر، تقفز عن حلكة العتمة ولا ترى سوى الفجر تزينه أكاليل الغار.

وفي كل اعتصام أمام مبنى الصليب الأحمر تراها وفي كل مظاهرة، هي صوت امرأة مقصوفة وجريحة تنزف دماً وقهراً، وتغني للحرية وللكرامة وللحق الذي يجمع الناس في بيت وارض وكوشان ودولة تحت شمس لا تطفئها قنابل الاحتلال…

أم شادي ظلت نائمة، فتحت عينيها على بياض الكون.. قلبها يدق ويدق، تريد أن تسمعه، وتريد أن تراه، لاتغلقوا عيني كما أغلقتم السجون، لا تأتوا بعد الآن في منتصف الليل لتعتقلوه أو تقتلوه، هو عاد من الموت إلي، فلا تجعلوا الموت ينتصر، لا تجعلوا السجان يسخر من حكايتي، عندما يصمت لساني ويتوقف قلبي…

دعوا قلبي يدق، دعو الناس يحتفلون بعودته، يحمله الشباب فوق أكتافهم، دعوني اسمع الأغاني والمواويل وتهنئة النساء لي، دعوه يحتضن أولاده وبناته ويسقى أشجار الحديقة، دعوه يمر من بوابة البيت عريسا بلا قيود وخوف…

أم شادي ظلت نائمة، يرتجف جسمها، تتحرك يداها… ترى جيش الاحتلال يعيد اعتقال 70 أسيرا محرراً من زملاء زوجها، وترى آلاف الأطفال في معسكرات الجيش يعانون البرد والجوع وآلام الضرب والتعذيب، وترى الأسرى المرضى والجرحى والمشلولين وسحابة سوداء من الموت تتدلى فوق رؤوسهم صامتين، وترى الجنود يقتحمون البيوت ويعتقلون الكبير والصغير، صوت صراخ في الحارة، دم على العتبات، ليل مسلح يملأ صدري، الأسير عرفات جرادات قتل قبل أن يرى مولوده الجديد.

رحلت أم شادي بعد عام من غيبوبتها الملتهبة، حركت كسل مؤسسات المجتمع الدولي ومجلس الأمن، ذهبت إلى أكثر من 35 اتفاقية ومعاهدة دولية، استدعت العدالة الإنسانية من اجل ن تهدم أسوار السجن وتطلق نبوءة الضحايا، أشارت إلى المجرمين واحداً واحداً، واحتلت النص والضوء وقاعة المحكمة…

أم شادي لم تجد وطنا أكثر نعمة من هذه الرياح المشبعة بالنداء، يمكن الهبوط الآن على سلم المستقبل، للحرية أصابع تعزف عليها هذه الأمطار قبل الوداع.

الآن وقد رحلت فينا، ارفعوا الأعلام واربطوا رؤوسكم أيها الناس بحبال الغيب وقولوا: أوحي ألينا وأوحي إليها، تقتفي هذه الأم خطواتنا لتعيدنا، لا شيء زائل في الأبدية، ما دمنا نحفظ الأسماء والأبجدية، وأرقام بوابات السجون وألقاب من قتلونا في المسكوبية..

أوحي إليها وأوحي ألينا، هناك فرق بين الزرع الذي يزهر في السماء على يديها، وبين من يجرف الأرض ليبني لحداً، وتذبل أعضاءه حداداً على نفسه الغريبة.

أوحي إليها وأوحي ألينا، يسألنا الموت عن تلك المرأة التي كلما استيقظت من غيبوبتها لبست الفجر وقالت: هذا حقي.

الثلج ودعها

وملائكة السماء…

انظروا تحت أقدامكم…

هناك صخرة في جسد امرأة

هناك ماء…