في طريق الأذى .. من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش –
القاهرة : إميل أمين –
هذا الكتاب مثير يخرج للعلن في أجواء أكثر إثارة، لا سيما أنه يفتح من جديد جروحات قديمة تمثلت في تنظيم القاعدة، الذي كان المنطلق الجديد لداعش. في طريق الأذى، كتاب للصحفي الاستقصائي المصري يسري فوده، الصحفي الأول والأخير الذي أتيحت له فرصة اللقاء بالعقول المدبرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، من عام 2001 ورغم مرور نحو ثلاثة عشر عاماً على ذلك اللقاء، فإن هذه هي المرة الأولى التي يجمع فيها قصته مع هذا السبق العالمي في كتاب باللغة العربية، مع جانب من الحقائق والصور والمستندات. لكنه أيضا يضيف إلى هذه التجربة الفريدة تجربة أخرى أكثر خطورة عندما عبر الحدود مع سوريا إلى العراق، مع مهربين في أعقاب الغزو الأمريكي، وبجانب ما تحمله هاتان التجربتان من قيم صحفية مهنية واضحة بأسلوب أدبي أخاذ، فإنهما أيضا مجتمعتان تلقيان ضوءا ساطعا على طريق فهم تطور حركة الجهاد العالمي التي وصلت بداعش إلى ما وصلت إليه في خضم ما يوصف بالربيع العربي.
عن دار الشروق في القاهرة صدر الكتاب، ولعل موعد صدوره في حد ذاته يرسم علامة استفهام لماذا الآن؟ لما يفتح يسري فوده جعبته ليروي قصة مضي عليها ثلاثة عشر عاما، وترددت من حولها قصص وروايات كثيرة، واختلط فيها الواقع بالخيال، والحقيقي بالافتراضي؟في مقدمة كتابه يخبرنا «يسري فوده» بأن الأقدار هي التي دفعت به دون إرادة منه ليكون جزءاً من قصة ضخمة.. نسمعه يقول… كنت من الالتزام المهني الأخلاقي بحيث جلت عليها أربعة وخمسين يوما بالتمام والكمال دون أن أخير أحد، فيما كانت المخابرات الأمريكية ومخابرات العالم كله تضرب أخماسا في أسداس؟
يقر يسري فوده بأنه كان من التواضع الإنساني بحيث أدرك أن ما كان يستطيع أن يراه بعينه كان فقط جانبا واحدا من المشهد وأنه لابد أن للمشهد جوانب أخرى كثيرة معقدة.. ما هي… ما طبيعتها ….. من أبطالها…؟ كانت وغيرها أسئلة مرجأة لا موقع لها الآن. وقد عاد قبل قليل بأول مباشر لتنظيم القاعدة من أفواه العقول المدبرة، وشرح مستفيضا لكيفية التخطيط لعملية الحادي عشر من سبتمبر بالتفاصيل، ذلك النوع من التفاصيل الذي يمكن اختبار صدقه بسهولة.
يسأل: «فوده» كل قارئ لكتابه الذي يتجاوز مائتي صفحة من القطع الكبير… ماذا تفعل لو كنت مكاني؟ خارجاً للتو من أحد المنازل الآمنة لتنظيم القاعدة في مدينة كراتشي الباكستانية، وفي جعبتي اعترافات رئيس اللجنة العسكرية للتنظيم، خالد شيخ محمد، والمنسق العام لعملية 11 سبتمبر، رمزي بن الشيبه، الأمريكان في كل مكان في أفغانستان وفي باكستان. القاعدة مشردة كما لم تتشرد من قبل. لا أحد في قناة الجزيرة، ولا في غيرها يعلم أين أنا ولا من قابلت. أسامة بن لادن وأيمن الظواهري تحت الأرض، والعالم كله في حالة مخاض، ثم فجأة… في جعبتي أنا العبد الفقير إلى الله معلومات تساوي 50 مليون دولار.
ما قصة الـ50 مليون دولار هذه؟ المعروف أن مكتب التحقيقات الاتحادية fbi كان قد أعلن في البداية عن مكافأة قدرها خمسة ملايين دولار، للإرشاد عن خالد شيخ محمد، زادها بعد ذلك إلى خمسة وعشرين، وكذلك فعل مع رمزي بن الشيبة الذي كان أيضا مطلوبا للعدالة في ألمانيا.
ولعل قصة اتصالات رجالات القاعدة بيسري فودة وذهابه إليهم برغبته وبحريته تحتاج من القارئ أن يستفي قلبه في تلك الرواية، والتي توجد تفاصيلها المدققة داخل صفحات الكتاب، لكن على الرغم من ذلك، ومع انقضاء ثلاثة عشر عاما على الحادث الجلل في نيويورك وواشنطن، فإن هناك أسئلة معلقة لا تزال جوانبها تثير الجدل والفضول. يقول «يسري فوده»، فيما يخص الشارع العربي، لا يزال كثيرون يسألونني حتى اليوم إن كانت القاعدة حقا هي التي تقف وراء عمليات الحادي عشر من سبتمبر أم لا؟
والجواب عند صاحب الكتاب: (ليس لدي شك في أن تنظيم القاعدة هو الذي أراد ففكر وخطط فجند ودرب فمول فأرسل فنسق فمضى في تنفيذ ما أراد… ما حدث في ذلك اليوم نفسه ، وفي السنوات القليلة التي سبقته، هو الذي يحتاج إلى مزيد من التحقيق. فيما يخص الجانب الأمريكي، يثير فوده، عند القارئ علامات استفهام مثيرة، مقلقة ومحيرة، وعنده أنه يقع عبء تفسير بعض الظواهر المحيرة في ذلك اليوم على واشنطن، مثلما يقع عبء تفسير الكثير من الملابسات الغامضة على مدي السنوات القليلة التي سبقت ذلك اليوم. ومن الثابت الآن، وفقا لمؤشرات كثيرة من أهمها رواية المسؤول الأول عن مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض آنذاك، ريتشارد كلارك، أن أحدا ما في واشنطن كان ينتظر ضربة من اليمين (القاعدة)، كي يوجه ضربة إلي الشمال (العراق). ينصح فوده كل قراء كتابه بأن يطلعوا على كتاب كلارك المعنون «ضد كل الأعداء»، وحتى اليوم لم تقدم الإدارة الأمريكية لمواطنيها وللعالم سوي تقرير مسيس صدر عن لجنة مسيسة، صيغ من أول سطر ببلاغة أدبية بعيدا عن اللغة الحاسمة التي تميز التقارير الأمنية، ومن ثم لم تحترم عقول مواطنيها، ولا شغف العالم، ولم تجب عن الأسئلة العالقة.
وفيما يخص تنظيم القاعدة، كان ذلك اليوم أوج وهجه الذي بدأ ينتقي، إذ تشرد التنظيم من بعده وقتل من جانب كبار قادته، وألقي القبض على الجانب الآخر،ـ من بين هؤلاء خالد شيخ محمد، ورمزي بن الشيبة اللذين قابلهما «فوده» في كراتشي عام 2002…. هل كانت هناك شبهات نجوم حول لعب المؤلف دوراً في تسليم هؤلاء للسلطات الأمنية الأمريكية؟ يلفت المؤلف في صفحات الكتاب إلى أن تنظيم القاعدة أصدر لاحقا بينما يبرئ ساحة فوده وساحة قناة الجزيرة من شبهة الإرشاد، وسط ما يسميه مستنقع من محاولات الصيد في المار العكر. وهما الآن في معتقل من محاولات الصيد في الماء العكر. وهما الآن في معتقل جوانتانامو، ومن الثابت ـ والحديث لصاحب الكتاب ـ أنهما وخاصة خالد شيخ محمد، تعرضا لتعذيب مبرح قبل الإعلان عام 2009 عن قرب إقامة محاكمة مدنية لما مع آخرين في نيويورك.
يزخر الكتاب بمساحات مثيرة وغامضة يمكن للعمل الصحفي أن يعرض من خلالها أي صحفي جاد لمخاطر، ولاسيما عندما يختلط ما هو سياسي بما هو آمني وما هو أيديولوجي، وهي واحدة من أخطر التحديات التي يمكن أن يجد فيها صحفي نفسه عن قصد أو عن غير قصد. قصة الطريق إلى القاعدة وما أحاط بها من ملابسات في الجزء الأول من هذا الكتاب، أما في الجزء الثاني فقصة أخرى، تقترب فيها أيضا خطوط الصحافة الجادة بخطوط السياسة والأمن والأيدولوجيا. فعلى هامش رحلة العبور في المجهول يحاول المؤلف أن يصف كيف يشعر حين يقودك مهربون عبر حدود دولية في رحلة غامضة بدأت بدعوة أكثر غموضا، ممن يعتقد أنها أقوى جماعات المقاومة في العراق، وأكثرها فتكا في أعقاب الغزو الأمريكي؟ لكن المؤلف في كل الأحوال يحاول أيضا أن يختبر ما هو أهم من ذلك، تأثير ما وقع في العراق على حوار العراق، ويصفه خاصة على بلاد الشام بمفهومها الجغرافي/السياسي التقليدي. سوريا، لبنا، الأردن، فلسطين وبالطبع إسرائيل؟ ومدى حتمية نزال أخير بين الشرق والغرب على هذه الأرض بعينها، في ضوء ما يوصف باستراتيجية تنظيم القاعدة، وما سار بحذائها، وما انبثق عنها من تنظيمات. في طريق الأذى… كتاب ربما تحتاج قراءته أكثر من مرة، لتحليل مضمونه والغرض منه في هذا التوقيت بالذات، إذ لا شيء صدفة في هذا العالم الخطير والمثير.