وزارة التربية والتعليم وتحقيق شهادة الآيزو..
أحمد بن سليمان بن مهنا الكندي –
عادة ما تكون هناك نقاط تحول في مسار المنشآت تشكل في تاريخها علامات فارقة قياساً بما تحدثه فيها من تحولات إيجابية صاعدة، ولاشك أن حصول المنشأة على إحدى شهادات الجودة يعتبر إحدى هذه النقاط.
في العام 2012 كنا في بداية الرحلة، وكنا نشعر بأننا أمام نفق يصعب عبوره، ولم نكن واثقين من قدرتنا على بلوغ نهايته، نعم كنا متسلحين بالثقة ولدينا معززات عدة تساعدنا على المضي قدما، لكن في الوقت عينه كانت ثمة هواجس تحاول سحبنا في الاتجاه الآخر، فحداثة التجربة، وما قرأناه من تحديات التغيير، والشعور بحجم العمل المطلوب إنجازه، كل هذه العوامل كانت ترسم أمام نواظرنا علامات استفهام كثيرة.
ولم يكن الجانب النظري الذي تتمحور حوله مواصفة الآيزو هو ما يؤرقنا، ذلك لأننا كنا على ثقة بأن رحلة الجودة قد اختير لها أفضل الفرسان القادرين على استيعاب المعطيات النظرية، لكن كان ما يشغلنا أكثر هو ترجمة هذه المعطيات إلى واقع عملي يفي بمتطلبات مواصفة الآيزو ويؤهلنا إلى خوض غمار طلب الإشهاد بالمطابقة .
كان مجال التطبيق واسعاً يشمل منظومة العمل في قطاع التخطيط والشؤون الإدارية في جميع المحافظات بالإضافة إلى ديوان عام الوزارة، وكان من بديهيات العمل التي آمنا بها منذ البداية، أننا لن نؤسس لنظام إدارة الجودة بالاعتماد المطلق على العاملين في أقسام الجودة، بل يجب أن يشارك كل موظف ينتمي لمجال التطبيق في بناء النظام وأن يعمل لاحقاً على تفعيله والالتزام به، وأن يعي دوره ومساهمته في تحقيق أهداف الجودة وسياستها المعتمدة، وأن يسهم برأيه ويشارك بجهده في مسيرة التحسين المستمر، وأن يضطلع بواجباته الوظيفية بهدف الوفاء بمتطلبات المستفيد.
وإذا كانت الرحلة إلى شهادة الآيزو في وزارة التربية والتعليم قد انطلقت فعلياً في صيف العام 2012 بتدشين مشروع الإرساء والتعاقد مع أحد المكاتب المتخصصة، إلا أنه كانت لهذه الرحلة محطة استعداد مهمة في صيف عام 2010، عندما قامت الوزارة بتنفيذ عملية تشخيص مبدئية تهدف للكشف عن إمكانية تطبيق نظام إدارة الجودة القائم على مواصفة الآيزو9001/2008 .
في ذلك العام قمنا بزيارة المحافظات التعليمية وكانت لنا حوارات مباشرة مع العاملين في مجال التطبيق لتفنيد الخطوات التي يتبعونها أثناء تقديم الخدمة وتحديد التداخلات مع الأقسام والدوائر الأخرى والتشريعات الإدارية والقانونية المتعلقة بها، كما التقينا بعدد من مديري ومديرات المدارس. كانت هذه اللقاءات تهدف إلى التعرف على الصعوبات التي يواجهها العاملون في أداء مهام عملهم على اعتبار أن مواصفة الآيزو لها اهتمام خاص بتأهيل العاملين والتأكد من توافر الموارد ووجود بيئة العمل المناسبة، أما لقاءاتنا مع مديري المدارس فكانت بهدف وضع تقييم لجودة الخدمة التي يحصلون عليها، انطلاقاً من اهتمام مواصفة الآيزو برأي المستفيد في الخدمة المقدمة وتحديد تطلعاته إلى مستويات التجويد المطلوبة فيها.
خرجت وزارة التربية من عملية التشخيص آنذاك بنتائج طيبة، فقد تم وضع اليد على نقاط القوة التي تدعم تطبيق النظام، والتي كان من أهمها تمتع الوزارة بكفاءات بشرية مؤهلة وذات خبرة واسعة في مجال عملها، واهتمام الوزارة بتسخير أدوات التقانة الإلكترونية في تقديم العديد من الخدمات، ووجود الدعم والمساندة من المسؤولين لتطبيق نظام إدارة الجودة، ووجود التشريعات القانونية والإدارية الضابطة للخدمات المقدمة، كما خرجت الوزارة من عملية التشخيص برؤية واضحة لما يطلبه المستفيد من تحسين للخدمات، وملاحظات العاملين واحتياجاتهم التدريبية، واحتياجاتهم لتحسين بيئة العمل.
ومجمل القول أن عملية التشخيص كان لها أهمية كبيرة في استكشاف منظومة العمل الإداري في الوزارة، والإفصاح عن إمكانية مواءمتها مع متطلبات تطبيق نظام إدارة الجودة وفقاً لمتطلبات مواصفة الآيزو 9001/2008م، كما ساعدت عملية التشخيص في وضع تصور مبدئي للمكونات الأساسية لنظام إدارة الجودة، واقتراح تسمية المدرسة بجميع مكوناتها كمستفيد نهائي للخدمات المقدمة، والاستقرار على خطة التطبيق لتكون في مرحلتها الأولى في المديريات والدوائر المعنية بالتخطيط والشؤون الإدارية وذلك لأهمية هذين القطاعين وتماسهما المباشر مع المستفيد (المدرسة) ودورهما المهم في تقديم العديد من الخدمات الأساسية له.
تم إيلاء التدريب أهمية خاصة في تنفيذ المشروع، فمنذ البداية كانت عملية التأهيل والتدريب هي المحك الأساسي الذي نعول عليه لنجاح المشروع، فتم تصميم البرامج التدريبي لتكون مواكبة للتطبيق، وعلى أساس أن التطبيق العملي الذي يتبع التدريب هو الوسيلة الأكثر نجاحاً في ضمان رسوخ المعطيات النظرية لأي مشروع يقوم عليها، فمن المعروف لدى خبراء التدريب أن المعارف النظرية تظل عالقة في الذهن وجاهزة للتطبيق خلال مدة لا تتجاوز الأسبوعين، فإذا لم يتم توظيف تلك المعارف وتطبيقها خلال هذه الفترة فإنها تنسى تدريجيا .
مع بداية المشروع كانت دائرة الجودة قد قطعت شوطاً جيداً في تأهيل الأخوة أخصائي الجودة في دائرة الجودة بالوزارة وفي أقسام الجودة بالمحافظات، لكن كانت هناك حاجة للتركيز أكثر على بنود مواصفة الآيزو، من جانب آخر كانت هناك أهمية خاصة في التدريب على توثيق إجراءات تقديم الخدمات لارتباطها العميق بمنهج العملية الذي تقوم عليه مواصفة الآيزو، كما تم الاهتمام بكيفية صياغة مؤشرات الجودة ووضع آليات القياس والمراقبة. شملت البرامج التدريبية مختلف الفئات الوظيفية، بدءًا من المديرين العموم ومروراً بأعضاء فريق الجودة ومدراء دوائر مجال التطبيق، وانتهاءً برؤساء الأقسام، وتنوعت البرامج بين محلية وخارجية، حيث شملت البرامج الخارجية الاطلاع على تفعيل نظام إدارة جودة قائم على مواصفة الآيزو في مؤسسات تجارية وصناعية وخدمية.
كانت مرحلة توثيق الإجراءات أهم مرحلة في تطبيق نظام إدارة الجودة في وزارة التربية وذلك لعدة أسباب منها أن توثيق إجراء تقديم الخدمة يعتبر المحور الذي تقوم عليه مواصفة الآيزو، فأنت في ظل هذه المواصفة مطالب بأن تكتب ما تفعل ثم لاحقاً مطالب أن تنفذ وتعمل وفقاً لما كتبت، ومن جانب آخر كان توحيد إجراءات تقديم الخدمة لجميع المحافظات التعليمية عملاً مضنياً يتطلب الكثير من التنسيق بين المحافظات للاتفاق على خطوات موحدة لتقديم الخدمات، لذلك كانت هناك لقاءات عديدة جمعت بين مديري الدوائر ورؤساء الأقسام في جميع المحافظات للخروج بإجراءات تأليفية موحدة بينها.
ومن المراحل المهمة أيضا في إرساء نظام إدارة الجودة مرحلة التدقيق الداخلي، التي جاءت بعد بدء العمل بنظام إدارة الجودة والذي استطعنا به سبر أغوار النظام واتخاذ الأفعال التصحيحية لحالات عدم المطابقة المسجلة، وكان لهذه المرحلة أهميتها في تحديد مدى جاهزية النظام للتدقيق الخارجي، كما كان لهذه المرحلة أهميتها في تأهيل فرسان الجودة لدينا للقيام بعمليات التدقيق الداخلي، تمهيداً لتأهيلهم لاحقاً للحصول على شهادات تدقيق معتمدة في مواصفة الآيزو.
وكما أسلفنا، تقوم مواصفة الآيزو على منهج العملية، والذي يعني أن يتم تنظيم العمل في المؤسسة بإنشاء بطاقات خاصة تحمل كل بطاقة مسمى عملية، فمثلا يكون مدير دائرة الموارد البشرية في المنشأة مسؤولا عن هذه العملية التي تندرج تحتها إجراءات تتعلق بها مثل (إجراء الإجازات، إجراء النقل، إجراء التعيين)، وهذه الإجراءات توثق أيضا في بطاقة خاصة بها تأخذ الجانب الوصفي الذي يفصل الخطوات التي يتم فيها تقديم الخدمة ووصفاً نصياً دقيقاً للخطوات الإجرائية والمتطلبات التشريعية والقانونية والتداخلات مع الأقسام الأخرى، كما تتضمن وثيقة الإجراء خارطة تدفق بأشكال هندسية لها دلالات خاصة توضح خطوات العمل الواجب اتباعها عند تقديم الخدمة، وتتضمن بطاقة العملية أهدافاً تتعلق بالإجراءات المنبثقة عنها، وهذه الأهداف تخصص لها مؤشرات جودة يجب الحرص على بلوغها.
تعنى مواصفة الآيزو 9001 بمكونات مهمة في منظومة العمل الإداري بالمنشأة، ولا شك أن الاهتمام بهذه الجوانب له أثره الإيجابي البارز في رفع الكفاءة الداخلية والخارجية للمنشأة، ففي حين تصبح المنشأة أكثر قدرة على تحقيق أهدافها، تصبح خدماتها ذات قبول أكثر لدى المستفيد، والآيزو هي منظمة دولية معروفة، تهتم بإصدار مواصفات خاصة تتضمن متطلبات واضحة يشترط الوفاء بها للحصول على شهادة المطابقة، وتهتم مواصفة الآيزو 9001/2008 بعدة مكونات تبدأ بمتطلب التوثيق والذي يتطلب إنشاء دليلاً للجودة يحتوي على مجال تطبيقها والاستثناءات الخاصة به، وبيان بالإجراءات المنشأة، كما يمكن أن يشتمل هذا الدليل على سياسة الجودة، وأهدافها، وخارطة العمليات ووصف التداخل بينها، كما تهتم مواصفة الآيزو بضبط الوثائق والسجلات، وتحديد الداخلية منها والخارجية، كما تهتم بتحديد المسؤوليات والصلاحيات، وتركز على المستفيد من ناحية تحديد تطلعاته في فترات مخططة لمعرفة رأيه في الخدمات المقدمة له،وكذا الاهتمام بالشكاوى المقدمة منه، وتفرض مواصفة الآيزو على المنشأة إجراء جلسات مراجعة الإدارة، التي يتم فيها مناقشة ما يتعلق بنظام إدارة الجودة واتخاذ التوصيات المناسبة، كما تعني مواصفة الآيزو بتحديد الموارد اللازمة لتقديم الخدمة وتلك اللازمة لتسيير نظام إدارة الجودة، ولها اهتمام خاص بتأهيل العاملين وتدريبهم وتمكينهم من أداء الأدوار المطلوبة منهم، كما تشترط توفر البيئة المناسبة للعمل، وتوفير المباني وأماكن العمل والأجهزة والبرامج والمواد اللازمة لذلك، وتضبط مواصفة الآيزو أي خدمة مقدمة من خارج مجال التطبيق وفقاً لعقود باطنية مبرمة مع الدوائر والأقسام التي تقدمها، كما تهتم الآيزو برفع كفاءة المنشأة في تمييز وتتبع الخدمات المقدمة، وتشترط المحافظة على المواد المملوكة للمستفيد وضبط معدات القياس والمراقبة المستخدمة في تقييم الخدمة، وتوفر آليات قياس لمراقبة الكفاءة الداخلية للمنشأة، وتشترط وجود آليات لتحليل البيانات واستخلاص النتائج منها، وتهتم بتفعيل عملية التحسين المستمر للخدمات التي يتحصل عليها المستفيد وفقاً لما يعرف بالأفعال التصحيحية والوقائية التي يجب اتخاذها .
ومما ينبغي التأكيد عليه أننا في دائرة الجودة لم نكن نسعى إلى الحصول على شهادة المطابقة في المقام الأول، نعم كنا نطمح إليها باعتبارها أثبات مهم لنجاحنا ومكافأة طيبة لجهودنا وإشهار مستحق لجهود الوزارة في هذا المجال، لكن ما كان يهمنا في الدرجة الأولى هو التطبيق الفاعل للنظام إدارة الجودة، التطبيق الفاعل الذي نلمس معه تحقيق التغيير الإيجابي الذي نتمناه في، التغيير الذي حلمنا أن يكون حقيقة ونحن نتصفح مواصفة الآيزو ونهضم محتواها النظري، وها هو الحلم قد تحقق، فأصبحت لوزارة التربية والتعليم سياستها الواضحة في الجودة، وأهدافها المرسومة، وهيكليتها ومجالسها الجودوية، وها هو نظام إدارة الجودة تدور عجلته باطراد في أروقة العمل بالوزارة، فيحقق تفاعلاً جيداً للعاملين ضمن مجاله، وتتكامل أطره النظرية مع متطلباته العملية لينبثق عن هذا التكامل أنموذجاً جيداً للعمل المؤسسي المنظم، وتتداخل طبيعته التوثيقية الدقيقة مع آليات القياس والمراقبة والتحليل ليتمخض عن هذا التداخل جودة الخدمة المقدمة من أول مرة وفي كل مرة.
إن النتائج التي لمست في دور نظام إدارة الجودة في رفع الكفاءة الداخلية في المديريات والدوائر والأقسام التي طبق فيها ليدعو إلى تعميمه في باقي قطاعات الوزارة، ولاشك أن هذا الأمر هو قيد التخطيط الآن في دائرة الجودة بوزارة التربية والتعليم، لاسيما بعد أن قطعت الوزارة شوطاً جيداً في تأهيل الموارد البشرية العمانية القادرة على ذلك، وبعد أن تعزز الفهم بأهمية أنظمة الجودة على صعيد التطوير والتحسين.
إن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا التوفيق من الله عز وجل ولولا الدعم الكامل من معالي د.مديحة الشيبانية وزيرة التربية والتعليم، وسعادة سعود بن سالم البلوشي وكيل الوزارة للتخطيط التربوي وتنمية الموارد البشرية الذي أحاط المشروع منذ بدايته بعنايته الشخصية المباشرة، فكان المتابع والداعم والمشجع في جميع مراحل المشروع، كما كان لاهتمام سعادة وكيل الوزارة للشؤون الإدارية والمالية أثراً فاعلاً في تطبيق نظام إدارة الجودة في المديريات والدوائر المعنية بالشؤون الإدارية، ثم كان المحرك المهم للدفع بهذا العمل نحو النجاح دور مديري العموم ومديري الدوائر ورؤساء الأقسام في مجال التطبيق، الذين استطاعوا أن ينظموا ويقودوا فرق العمل لبلوغ الغاية المنشودة .
فتحية شكر وتقدير للزملاء في دائرة الجودة وللزملاء في أقسام ضبط الجودة بالمحافظات ولجميع العاملين في مجال تطبيق المشروع على تفانيهم وإخلاصهم وتعاونهم في إنجاز هذا المشروع، سائلاً الله العلي القدير أن يوفق الجميع لما فيه خير ومصلحة هذا الوطن الأبي.
المدير المساعد لدائرة الجودة / سابقا
وزارة التربية والتعليم


