الصُندوق الأسود!

د. يسرية آل جميل –

لكل منا أسراره الخاصة، عالمه الخاص، مُحيطه، صُندوقه،

الأسود.. الأخضر.. الوردي..، لا يهم، المهم ألا يسمح لآخر، أيا يكُن، أن يخترقه أو يمرُّ خلاله، حتى لو كان المرور مرور الكرامْ.



اتفقنا أن نلتقي، لنا سنوات طوال لم تجمعنا صدفة، ولو بالخطأ. الكُل مشغولٌ ببيته وأولاده وعمله. اخترنا “ كوفي شوب “ هادئ يُطل على موجِ البحرِ مباشرة، فالحديث أمام البحرِ له سحرٌ خاص، والبحر في حد ذاته له جاذبية لا تُقاوم

في استخراج مكنونك دون أن تشعر.

كان اختياراً موفقاً من نورة، صاحبة الفِكرة، عصر الخميس سنلتقي، الخامسة تماماً، دونَ تأخير، ولا يُسمح بالاعتذار عن هذا التجمُّع النسائي، الأهمُّ بالنسبة لنا جميعاً.

لم يلعبُ الزمن لعبته على وجوهنا بعدْ، بعض الخطوط الخفيفة التي تزول بحقنة “ بوُتكس “ صغيرة “ ولا من شافْ.. ولا من درى “،

ما زال كثير منا أو معظمنا يتمتع بقوامٍ ممشوق، على الرغم من الزواج والحمل والإنجاب، هي عادتنا منذ جمعتنا أروقة الجامعة، الاهتمام أولاً وأخيرا بالجَسد

لأن ذلك ينعكس على الرُوح، و “ كذَّابٌ ..” من ينُكر ذلك.

“ سُولفنا.. ضحكنا.. علت أصواتنا بالنُكات، فالمكان حولنا فارغ إلا منا،

على الرُغم من كُل ذلك لم يفتني أن أشعر بالغصة في قلبِ كُل منهن حتى لو أظهرت خلاف ذلك، بادرتهن : “ شخبار الدنيا معاكم يا بنات ؟! “

وكأني وضعت يدي، فوق جرحٍ غائر و مُؤلم حد الوجع الذي لا يُطاق، تلاشت الضحكات، كبرَ الجميع بعد هذا السؤال عشرون عاماً في لحظةٍ كأنها دهر، دهرٌ مليء بالأحداث المُوجعة التي غرست في نبضنا جميعا شوكة تؤذينا كُلمَّا حاولنا التنفس شهيقاً وزفيرا.

تقول: كان زميلي في الجامعة، جمعتني به سنواتٍ طوال، عرفَ كل منا الآخر أو ظنَّ كل منا أنه بات يعرف الآخر حد اتفاقنا على الزواج، وتخرجَّنا وتزوجنا وأنجبنا، لكن هذا الذي اقترنت ليسَ هو الذي عرفته، تحوّل 180 درجة، وكأني أستيقظ وأرقد في بيتِ رجلٍ غريب لم تجمعني به الأيام يوماً، ذهبت كل الرومانسية، ما عاد يناديني “ حبيبتي “، ما عدتُ أسمع منه غير الصوتِ العالي المُدجج بالأوامر، وعلى الجارية التي استأجرها في بيته أن تُنفذ فقط..!!

مع ذلك فأنا مُضطرة إلى تحمُّل أسلوبه هذا فقط لأجلِ الأولادْ، أما هوَ، فما بيني وبينه ورقة في خزانة أو بين أوراق ملف، كأي عقد اتفاق بين شريكٍ و آخر.

ثم حدثتني الأخرى بما يُدمي القلب ويكسر الظهر، كان حديثنا أشبه بفضفضة نسائية، لكلٍ جرحه الذي يُغنِّي على ليلاه، في شفتيها ابتسامة، فهي كتومة جداً، وتُحاول أن تُظهر لمن حولها سعادتها التي لا تُقدَّر بثمن، لكن هذه السعادة ممزوجة بطعم الغَدر ومن أقرب الناس إليها.

كانت تحسدها على هذا الحظ الكبير، مثلها مثل كثير من بناتِ جيلها، فقد رُزقت بزوجٍ ذو منصبٍ وجمال، أدخلها عالم الأحلام، حقق لها ما تتمناه أي امرأة ترتبط برجل، المال والسفر والدلال، طلباتها أوامر، سنوياً سيارة جديدة، أطقم ذهب وألماس، أغلى ماركات الثياب العالمية، رُزقت منه بتوأم، ولد وبنوتة، وظلت تعيش في سعادة كانت تحمدُ الله عليها ليل نهار.

إلى أن استيقظت على واقعٍ مرير، فتاة تُراسل زوجها، تُلاحقه ليل نهار، بدأ الشك يدخل قلبها، لكن عقلها يرفض تصديق هذا الأمر، فهو يحبها حُبا جمَّا، ثم إني لم أقصِّر تجاهه بشيء. يوماً وراء يوم بدأ يغيب عن المنزل كثيراً، سفره خارج البلاد بدأ يكثر، غذاؤه وعشاؤه، الشيء المُقدَّس الذي كان يحرص على ألا يفوِّته معي

أصبح يتناولهما خارج المنزل.

تأكدت أن امرأة اخرى في حياته، فقلبُ المرأة دليلها، وما كانت هذه المرأة سوى أختي، نعم أختي، طلبت الطلاق وحصلت عليه، فقدت زوجي، وخسرت أختي،

وهذا أنا أعيش بين أولادي، أستمدُ من براءتهم طاقتي للحياة المليئة بالتعب.

أما أنا- هكذا بادرتني- فقررتُ أن أعيش لنفسي فقط، لم أربط مصيري بمصير رجل من أجل أولاد، لا يُوجد رجل يستحق أن أرهق نفسي وتفكيري وأعصابي لأجله. هكذا رمتها في وجهي “ من الآخر “ كما يقولون، لم تسرد لي تفاصيل شيء مُحدد، هو فقط دخل حياتها، كأي شخص يتسلل إلى زوايا قلبك دون استئذان،

حياتها معه علمتها أن بعض الوجوه خلفها ألف قناع، وأن بعض الحنان خلفه كل أنواع القسوة.

تقول لي: تألمت، لكني علمت حجمه في حياتي، لم أُتعب نفسي بالبحث عن حقائق، لا شيء سيدوم، حتى هو سيأتي يوم وينتهي، لذلك قررت ألا أحزنْ، وأن أتعلَّم النسيان، وأن أترك مسافة أمان بيني وبين كثير من الناس، الذين غالباً ما نكتشف أنهم لا يستحقون، فتركته ورحلت قبل أن يغدر هوَ بي، وها أنا أعيش في سعادة، حرمني منها من كُنت أظن أن معه كُل السعادة!!

لا تبحثوا عن السعادة عند أحد، ابحثوا عنها في قلوبكم.