مصباح قطب –
mesbahkotb@Gmail.com –
خلال افتتاح رئيس الدولة المصري للتوسعات في مطار الغردقة الواقعة على شاطئ البحر الأحمر عرض القائمين على أمر المطار على الرئيس خطة إقامة ممر جديد يتكلف 450 مليون جنية (الدولار =7,18 جنيه رسميا) وهنا اشار الرئيس إلى أن هناك مبالغة في التكاليف في واقعة هي الأولى من نوعها. ننطلق من هذه الواقعة الى الدراسة والحديث عن قضية تكلفة المشاريع في مصر وغير مصر كثيرا ما يتفاجأ المرء بأن تكلفة هذا المبنى أو ذاك تصل إلى مئات ملايين الجنيهات وسط استغراب وعدم وضوح لمعيارية هذه التكلفة وعما إذا كانت واقعية ام لا، ولا أتطرق هنا إلى وجود فساد من عدمه فنحن نتحدث فقط عن تكاليف المباني التي تقام في ظروف عادية ومع استعراض تاريخي بسيط ولو من الذاكرة لتكلفة المباني الحكومية او حتى الخاصة عايش المرء ظروف اقامتها وطالع إعلانات المناقصات الخاصة بها، فإنه يمكن القول إن هناك انفجارا كبيرا في تكاليف المباني الحديثة يحتاج الى تحليل معمق للوصول الى ما هو طبيعي او غير طبيعي فيها نعرف أن تضخم التكاليف يأتي من زيادات الأسعار أو هكذا يجب أن يكون الأمر وزيادات الأسعار تأتي من التضخم وان مصادر التضخم الاساسية هي التضخم المستورد بمعنى ارتفاع اسعار السلع والخدمات الموردة من الدول التي تمثل الشركاء التجاريين الأساسيين ويأتي التضخم ثانيا من القرارات الإدارية كأن تقوم الحكومة مثلا برفع أسعار المواد النفطية أو تقليص الدعم عموما (وقد حدث ذلك فعلا في مصر 2014) أو ترفع من اسعار السلع والخدمات التي تقدمها هيئات اقتصادية لزيادة عوائد الخزانة العامة من تلك الهيئات واو تزيد الاجور، ويأتي التضخم ثالثا من عدم نضوج الاسواق وتشوهها وكما نعلم فإن التجارة الداخلية في معظم البلدان العربية تفتقر إلى التنظيم الجيد وإلى المؤسسية وتغيب عنها الرقابة الفنية والصحية والبيئية الواجبة كما يشيع فيها تعدد الوسطاء وضعف المنافسة ووجود احتكارات ظاهرة او خفية لسلع وخدمات مؤثرة وضعف البنية الأساسية المساندة.
كل ذلك أيضا يؤثر على الأسعار، ويأتي التضخم أيضا من العجز الكبير في الموازنة العامة الذي يمول إما بطبع نقود لا يقابلها إنتاج أو بالاقتراض من الجهاز المصرفي ما يزيد من تكاليف الاقتراض في أسواق المال عموما ويؤدي عمليا إلى رفع الأسعار كما يأتي أيضا من التغييرات المفاجئة في أوضاع الدولة او بيئتها التي تؤدي إلى ندرة في هذه السلعة أو تلك أو في هذه المجموعة السلعية أو تلك إلى غير ذلك من الأسباب بقراءة انعكاس مثل هذه المؤثرات على تكاليف الإنشاءات والمقاولات لا يزال المرء غير مصدق لما يراه من تكاليف لمنشآت؛ بل إن بعضها يثير الذهول لدى المتلقين مثل الإعلان عن ان تكلفة كوبري علوي للمشاة وصلت الى عدد من ملايين الجنيهات لا يتناسب مع مهمة وطبيعة مثل هذه المنشأة ويتعين بالتالي البحث عن عوامل اخرى وراء هذا الانفجار في التكاليف.
أول ما سنجده هو اهمال استخدام العنصر البشري بتوسع فيما يمكن ان يقوم به بديلا عن المكينات والمعدات بل ويمكن ان يقوم به بوقت اسرع وبالطبع بتكلفة اقل.
نضرب علي ذلك مثالا حيث استخدمت الهند على نطاق واسع الحفر اليدوي في اقامة أنفاق مترو نقل الركاب بدلا عن الحفارات العملاقة وتم الامر باستخدام اعداد مضاعفة من الأيدي العاملة وهي متوفرة وتكلفتها ضئيلة جدا وبالتالي يتم إنجاز الأعمال بنفس الكفاءة والسرعة بل وتتحقق فائدة اضافية من جراء توفير النقد الاجنبي الذي كان سيتم من خلاله استيراد حفارات او معدات بل ان ايضا اللجوء الى العنصر البشري في مثل هذا النوع من المشاريع يمنح مرونة أعلى في التعامل مع الشوارع والمرور خلافا للمعدات العملاقة التي تحتاج الى احتياطات لا مفر منها ويكون من شأنها تعطيل حركة الشارع بهذا الشكل او ذاك.
ان البعض في عالمنا المعاصر أصبح لا يتصور إمكان إنجاز الأشياء من دون الاستعانة التامة بالتكنولوجيا ولا ندعو هنا الى قطيعة مع التكنولوجيا بل الى استخدام عقلاني لكل أنواع الموارد المتوفرة لتحقيق الهدف في أسرع وقت وبأعلى جودة وبأقل تكاليف وبافضل طريقة.
وفي سياق ضعف الخيال الإنشائي أيضا نشير إلى ضعف الحوارات المجتمعية حول المشاريع الجديدة بمعنى أن الإدارة وحدها هي التي تحدد ما تحتاجه المؤسسة واين ومتى تقيمه وكيف ولو كان قد حدث اي حوار داخلي حول المباني الجديدة المزمع إقامتها لأمكن في كثير من الحالات تغيير مخطط الإنشاء وعمل شيء مختلف بتكلفة أقل مع قدرة اعلى على أداء المهام والوظائف المطلوبة، وقس على ذلك المشاريع التي تقيمها الجهة او المؤسسة لتطوير الشوارع او الميادين مثلا.
عنصر ثالث يؤثر في التكاليف ولا يحظى بأي مراجعة نقدية من المسؤولين الحكوميين أو مسؤولي الشركات ألا وهو الفخامة المبالغ فيها في المنشآت وتجهيزاتها الداخلية وتشطيباتها التي لا تكون بالضرورة الأجمل أو الأوقع تأثيرا في النفوس ناهيك أن تكون الأكثر ملاءمة لظروف المؤسسة او الشركة أو مجتمع العاملين بهما أو الوسط المحيط ويبدو طول الوقت أن هناك مباراة غير معلنة بين الجميع للمغالاة في الفخامة والفنتازية المعمارية عامل مهم ايضا في تكاليف المنشآت ينبع من وجود شركات لها ثقل فى دخول المناقصات لكنها عمليا تستعين بحلقات متعددة من المقاولين والموردين لإنجاز العمل ما يزيد من التكاليف وقد أضيف في العشرين عاما الماضية الى زيادة التكاليف عنصر آخر تم اصطناعه اصطناعا لحساب قلة طفيلية ألا وهو ثمن أو تكلفة الأرض التي سوف يبني عليها أي مبني يفهم المرء أن تكون الارض عنصر ندرة في دبي لكن لا يفهم ذلك في مصر التي يعيش سكانها على 6% فقط من مساحتها والباقي ارض لا حياة فيها على الرغم انها في معظم الاحوال مسطحة وقابلة للعمران بيسر لقد كان من مصلحة البعض ولا يزال ربما افتعال وهم الندرة في الارض حتى تظل المضاربات مشتعلة عليها.
يبقى أخيرا أن من أهم عناصر انفجار التكاليف في الإنشاءات والمباني هو اهمال البحث العلمي في مجال المواد البديلة وطرق البناء البديلة بل ان ما يظهر من نتائج لا تتم الاستعانة بها ويبدو ايضا ان من مصلحة المهيمنين على سوق الصناعة في الوقت الراهن الا تأخذ البدائل فرصتها وفي اعتقادي ان البدائل قد تجد فرصا افضل في المدن الصغيرة اولا من حيث مقاومة اصحاب المصالح أقل وحيث دخول المواطنين أقل وبالتالي فهم أكثر تعطشا لمساكن ومنشآت تجارية اقل تكلفة من المهم ايضا تجويد عملية التنظيم الذاتي لصناعة المقاولات والتشييد بمعني ان تكون هناك اتحادات فرعية قوية وحديثة ومستقلة لكل فرع من انشطة المقاولات ويكون هناك ايضا اتحاد عام قوي وحديث ومستقل كذلك يعبر عن جموع العاملين في الصناعة بمستوياتهم وتنوعهم ويكون من شأن هذه الاتحادات القيام بعملية الضبط المعياري للتكاليف والمواصفات وتأديب غير الملتزمين او حتى شطبهم وفي المقابل يجب ايضا تقوية منظمات المجتمع المدني التطوعية المعنية بالعمران حتي تكبح جموح المقاولين او الميول المشروعاتية الفجه لدي اجهزة الادارة او حتي لدي الشركات الخاصة وحتي تدعم وجود انساق معمارية منسجمة في كل مدينة صغيرة او كبيرة.
كل ما تطرقنا إليه لم يكن من عوامل التضخم الأساسية التي أشرنا اليها في البداية اي اننا نسلم بانه تحدث زيادات منطقة لا مفر منها في التكاليف لكن هناك ايضا امور اخرى مؤثرة للغاية لكن الاهتمام بها غائب كما اسلفنا، وهناك بعد اخير هو عمل توازن دقيق ما بين مؤسسات الانشاءات الوطنية والاجنبية من جهة والعامة والخاصة من جهة اخري والمقاولات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة من جهة ثالثة.