د. عبدالحميد الموافي -
من المؤكد أن الحماسة للوطن، والخوف عليه والحرص على كل ما يفيده، دوما وتحت كل الظروف، هي من المشاعر الطيبة والمحمودة؛ لأنها ببساطة ضرورة لا غنى عنها لكي يبذل كل مواطن، كل ما يمكنه من جهد وعطاء من اجل النهوض بالوطن وتحقيق أهدافه، وأولوياته في كل مرحلة من مراحل نموه، غير أن تلك المشاعر الطيبة تتحول أحيانا إلى مشكلة لدى البعض ممن ينطلقون من تلك المشاعر إلى تصور أن الإخلاص وحده يكفي ليمنحهم أنهم يرون كل الحقائق، أو انهم يعرفون أفضل السبل للتعامل مع المشكلات.
وإذا كانت صدقية مشاعر هؤلاء تساعد على دفعهم إلى الاستجابة والتفاعل مع الحقائق عندما تتضح، فان المشكة الأكبر تظل قائمة ومستمرة مع شريحة أخرى ممن اصطلح على تسميتهم بجنرالات المقاهي، وهي الفئة التي ظهرت واتسع نطاقها مع هزيمة يونيو 1967، وحرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر عام 1973، وهؤلاء لا تتوفر لهم أية معرفة علمية لا بالعسكرية ولا بالقتال، ولا بالحرب وتكتيكاتها واستراتيجياتها ومشكلاتها، وكل ما يتوفر لهم هو سماع بعض التعليقات والآراء من وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل إعلام معادية، وجسارة المناقشة واقتراح الحلول لقضايا بالغة التعقيد !!. وهؤلاء هم – على الأقل في الجانب الأكبر منهم – امتداد لما يعرف بخبراء الكرة – كرة القدم – الذين يملأون فراغ لقاءاتهم على المقاهي وفي أماكن لقاءاتهم، بحوارات الكرة والمباريات وما كان يجب أن يقوم به هذا اللاعب أو ذلك الفريق ليكسب أو ليغير النتيجة.ومع تطور وسائل الإعلام وتعددها وانتشارها، وانضمام وسائل التواصل الاجتماعي إليها، اتسع نطاق ما يمكن تسميته بالثرثرة الاجتماعية – وليست الثقافية – حول كل شيء، ومال كثيرون إلى التحول إلى خبراء في أي موضوع، اعتماداً على ما يصل اليهم من بعض المعلومات حول هذا الموضوع أو ذاك، بل أن البعض تجاسر على التحول إلى كاتب أو صاحب رأي، وهو لا يملك أسس الدخول إلى موضوع المناقشة في احيان كثيرة، وهذه آفة بالغة الخطورة، خاصة عندما يتحول البعض إلى مروج لإشاعة أو ناشر لأفكار غير صحيحة، يمكن ان تنتشر سريعا، ولكن تصحيحها يحتاج إلى جهد ووقت كبيرين. ومن المؤسف أن عدد هؤلاء يتزايد في مجتمعاتنا التي تمر بظروف صعبة، بكل المعاني، وأصبح هناك من يستسيغون تسمية انفسهم بالنشطاء، نشطاء في طرح أفكار ورؤى وتصورات حول قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية تمس حاضر ومستقبل مجتمعاتهم، وبجسارة لا يمكن فهمها إلا بأنهم (لا يعلمون)، وعندما يصطدمون بمشكلة، سرعان ما يلوذون برفع شعار حرية الرأي والتعبير، وكأن حرية الرأي تعني طرح أي شيء، أو أنها بوابة لنشر الشكوك والشائعات ومحاولة هدم ركائز هامة في المجتمع.
وفي الآونة الأخيرة، وفي ظل الانخفاض الشديد في أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهو تطور له أسبابه ودوافعه، المعلنة وغير المعلنة، جرت الكثير من المناقشات، وطرحت الكثير من وجهات النظر، بحماسة وإخلاص حينا، وبمكر وأهداف محددة حينا آخر، سواء بعلم وإدراك، أو بتصورات وتهويمات تساير ما يتردد في وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي. وتحدث الجميع تقريبا، ومن منطلقات مختلفة بالتأكيد، عن تنويع مصادر الدخل في السلطنة، والحد من الاعتماد على العائدات النفطية التي تشكل نحو 80% من جملة العائدات في الميزانية العامة للدولة، كما تحدث البعض أيضا عن مقترحات وأفكار مختلفة لمواجهة هذا التطور. وفي هذا الإطار فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:
** أولا: إن الحديث عن تنويع مصادر الدخل القومي للبلاد، ومحاولة الحد تدريجياً من الاعتماد على عائدات النفط، ليس اكتشافا حديثا، ولا قضية موسمية، نتذكرها عندما تنخفض أسعار النفط في الأسواق العالمية، ولكنها في الواقع استراتيجية للتنمية الوطنية، أو بمعنى أدق إحدى سبل استراتيجية التنمية المستدامة، التي تم الحديث عنها منذ ثمانينات القرن الماضي، ثم تبنتها بقوة استراتيجية (عمان 2020) وبشكل كبير منذ بدايتها عام 1996.
ولأن استراتيجية تنويع مصادر الدخل القومي، هي بالقطع استراتيجية متعددة الأبعاد والجوانب، ليس فقط لأنها تتعامل مع مجتمع ينمو وتزداد احتياجاته وتطلعاته مع زيادة عدد سكانه وتطور الحياة فيه، ولكن أيضا لأنها تتطلب النهوض بقطاعات الاقتصاد الأخرى، خاصة القطاعات غير النفطية، ممثلة في الزراعة والثروة السمكية والصناعة والسياحة والخدمات والتجارة وغيرها، فان تحقيق ذلك يحتاج بالضرورة إلى الكثير من الوقت والجهد. نعم العائدات النفطية استطاعت تغطية جانب كبير من الاحتياجات الوطنية، وخاصة فيما يتعلق بمواكبة التغيرات الاجتماعية، في مجالات التعليم والصحة والتشغيل والخدمات في المجتمع، ولكن الصحيح أيضا أن الاقتصاد العماني الآن قد حقق تغيراً كبيراً عما كان عليه من قبل. ويتضح هذا الأمر في ظل ما هو معروف من أن تنشيط وتطوير القطاعات الاقتصادية غير النفطية تحتاج إلى سنوات عديدة، ولا تتم بمجرد كبسة زر، أو بمجرد التمني. وما يحدث في قطاعات الزراعة والثروة السمكية والتعدين على سبيل المثال، يحمل الكثير من الدلالة. أما القول بأنه فات أربعون عاما على الدعوة إلى تنويع مصادر الدخل والحد من الاعتماد على النفط، وما زلنا نتحدث عن القضية ذاتها الآن، فانه -إذا استخدمنا أفضل الكلمات- حق يراد به باطل، ليس فقط لأن هناك ما تحقق بالفعل، وما يلمسه الجميع، حيث تمثل عائدات القطاعات غير النفطية أكثر من 20% من عائدات الميزانية العامة للدولة، ولكن أيضا لأن تحقيق هدف تنويع مصادر الدخل في السلطنة، والذي يستغرق سنوات طويلة لا يقاس فقط بحجم العائدات المالية، ولكنه يقاس كذلك بنسبة مساهمة القطاعات المختلفة في الناتج المحلي الإجمالي.هذا فضلاً عن حقيقة أن تنويع مصادر الدخل القومي تثير بالضرورة قضايا الادخار والاستثمار على المستوى الوطني، ودور القطاع الخاص في التنمية الوطنية من ناحية، والقضايا المرتبطة بمناخ الاستثمار في السلطنة والقدرة على جذب الاستثمارات الخارجية ومدى النجاح في توظيف الإمكانات المتاحة، بدءاً من الموقع الجغرافي وحتى استثمار الموارد المتوفرة، بشرية ومادية. غير أن البعض ينسى أو يتناسى طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبلاد وإنها ببساطة ثاني أكبر دول مجلس التعاون من حيث عدد السكان، ومن حيث المساحة الجغرافية أيضا، وان إنتاجها اليومي من النفط لم يصل إلى 900 ألف برميل سوى من نحو عام أو أكثر قليلاً. وباختصار شديد فان قضية تنويع مصادر الدخل القومي هي بالأساس قضية إنتاج، وتحتاج – من بين ما تحتاجه – توفر كوادر وطنية مؤهلة ومدربة وراغبة أيضا في الانخراط في دولاب العمل والإنتاج الفعلي، وليس في دولاب الوظيفة وابهة المكاتب الحكومية. اما تجاهل ما تحقق أو محاولة التقليل من أهميته فانه لا يتعامى فقط عن الكثير مما تحقق، ولكنه قد يدخل في دروب اقرب الى التشكيك وربما اللعب على مصالح مختلفة !! نعم لا يمكن القول بأنه ليس هناك ابدع مما كان، ولكن المؤكد أننا نحتاج إلى البناء على ما تحقق وتحقيق أفضل استثمار له، في الحاضر والمستقبل أيضا.
** ثانيا: انه في الوقت الذي توجد فيه خيارات وبدائل اقتصادية وتمويلية متنوعة لسد فجوة الانخفاض في أسعار النفط في الأسواق العالمية، خاصة إذا تحسنت الأسعار مع أواخر هذا العام، فانه من غير الصحيح ولا الملائم إثارة خوف أو قلق المواطنين أو الوافدين بالحديث عن خيارات جنرالات المقاهي الذين تحولوا إلى خبراء في الميزانية والتمويل والاستراتيجيات الاقتصادية. من المؤكد أن هناك حاجةً للمناقشة المجتمعية على أوسع نطاق ممكن للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الدولة والمجتمع، وإشراك أكبر قطاع ممكن من المواطنين في التعرف على ملامح الواقع الاقتصادي ومتطلباته، وفي التفكير في سبل التعامل الصحيح والفعال معه، ولكن من المهم والضروري أن يتم ذلك من خلال خبراء متخصصين في المجالات المالية والاقتصادية، والتخطيط الاقتصادي أيضا، ومسؤولين كذلك في المؤسسات المالية والاقتصادية المختلفة، حتى يمكن طرح الحقائق أمام المواطنين وإشراكهم في مسؤولية القرارات وتنفيذها والالتزام بها أيضا، وحتى ينحسر أيضا فيض مقترحات جنرالات المقاهي الذين تحولوا إلى خبراء في الاقتصاد والميزانية !!
ومع التقدير لحماسة المخلصين في الحديث عن قطاع السياحة في السلطنة، وما يمكن إن يسهم به، فانه من المعروف أن الهدف الذي وضع في استراتيجية عمان 2020 بالنسبة لقطاع السياحة هو ان تصل نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي الى 3%. ومع الوضع في الاعتبار أن كثيراً من الخطوات اتخذت للنهوض بهذا القطاع على مدى السنوات الأخيرة، إلا انه يظل قطاعاً محدوداً، ويحتاج إلى الكثير من الجهود لاكتمال البنية الأساسية له في المحافظات المختلفة من ناحية، وللوصول بالترويج للسياحة في السلطنة، إقليمياً ودولياً، الى الحد الذي يتحول معه هذا القطاع إلى رافد من روافد الدخل القومي ذات الإسهام الكبير. ومن ثم فان السياحة يمكن ان تتحول، على المدى الطويل، الى قطاع مهم، ولكن ليست الى قاطرة للاقتصاد العماني، لأن قاطرة الاقتصاد العماني هي بالفعل القطاعات الإنتاجية، التي ينبغي ان تكون كذلك في الصناعة والزراعة والثروة السمكية والمقاولات والتجارة ولا بأس من ان تنضم اليها السياحة والخدمات عندما تصل الى مستوى معين في المستقبل.
على أية حال فانه يمكن القول إن الميزانية العامة للدولة لهذا العام عبرت على نحو واضح وعميق الدلالة عن انحياز القيادة الحكيمة وحكومة جلالة السلطان المعظم كعادتها، إلى المواطن العماني ، والى كل ما يسهم في تحقيق الحفاظ على مستوى معيشته وتحسينه قدر الإمكان والحفاظ على الدخل الحقيقي له. ولكن النجاح في تحقيق ذلك يتطلب تفهم وتعاون المواطنين مع الحكومة للسير في الخيارات التي تحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية على أفضل نحو ممكن اليوم وغداً.