أحلام أفغانية مؤجلة

عاصم عبد الخالق –

assem@ahram.org.eg –


في كلمته المقتضبة بمناسبة انتهاء مهمة قوات التحالف الدولي «ايساف» في أفغانستان، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن «أفغانستان ستبقى مكانا خطرا وسيواصل الشعب الأفغاني وقواته تقديم تضحيات هائلة دفاعا عن بلاده».


هذه العبارة علق عليها أحد الكتاب في صحيفة الجارديان البريطانية قائلا إن ما ذكره أوباما يمكن ترجمته سياسيا كالتالي « ما زال هناك الكثير من القتال المرير في انتظار أفغانستان». وإذا جاز لنا أن نترجم أيضا ما قاله المعلق الإنجليزي فلن نجد سوى عبارة موجزة واحدة هي أن السلام في أفغانستان مازال بعيدا جدا.

لم يزد الاحتفال الذي أقيم في العاصمة كابول يوم 28 ديسمبر الماضي عن كونه إعلانا رمزيا بانتهاء الحرب. أو إن شئنا الدقة انتهاء مرحلة العمليات الميدانية المباشرة لقوات «ايساف» التابعة لحلف شمال الاطلنطي «الناتو» بما في ذلك القوات الأمريكية، وبدء الانسحاب التدريجي لهذه القوات. ولا يعني هذا نظريا ولا عمليا أن السلام قد تحقق، أو حتى أنه في سبيله ليظلل بأجنحته ربوع أفغانستان التي مزقتها الحروب عبر تاريخها الطويل الدامي.

مع الأخذ في الاعتبار هنا أن ما يقرب من 18 ألف جندي أجنبي بينهم عشرة آلاف و600 جندي أمريكي سيبقون في أفغانستان لدعم القوات المحلية وتدريبها والقيام بعمليات عسكرية نوعية فضلا عن النشاط الاستخباري.

لا يوجد على الساحة الأفغانية ما ينبئ بأن شيئا طيبا ولا جيدا في سبيله للحدوث بعد 13 عاما من الغزو الأمريكي الذي بدأ في أكتوبر 2001 وانتهى رسميا في احتفال كابول الرمزي. ولا تبدو حصيلة 13 عاما من التواجد الأمريكي مبشرة بخير يمكن أن يتحقق في المدى القريب. وما زالت أفغانستان بعد هذا الوجود الثقيل عسكريا وسياسيا تفتقد المقومات اللازمة لوجود وقيام دولة متماسكة، وحكومة قوية قادرة على إدارتها. وهذا هو جوهر الأزمة التي تعاني منها أفغانستان، والتي ستعصف بها بعد الرحيل الأمريكي.

من الناحية النظرية هناك نحو مائتي ألف جندي حكومي يتوزعون في تشكيلات أمنية وعسكرية مختلفة، ولكن في دولة ينخر الفساد في هيكلها يظل هناك شك كبير ليس فقط في قدرة هذه القوات وكفاءتها القتالية، بل في وجودها من الأساس.

لا يبدو الأمر غريبا لاسيما في واقعنا العربي حيث لدينا تجربة مماثلة في العراق عرفتها وسائل الإعلام باسم الجنود الأشباح أو الفضائيين، وهم جنود ليس لهم وجود في الواقع، ولكن مجرد قوائم أسماء وهمية أو حتى حقيقية لرجال لا يخدمون تحت السلاح وتصرف رواتبهم ومستحقاتهم المادية والعينية كاملة لتذهب في جيوب آخرين.

هذه الفضيحة مازال القارئ العربي يتذكرها منذ أن أثيرت قبل أشهر طويلة وأعيد التذكير بها بعد الاجتياح السهل الذي قامت به قوات داعش لمناطق واسعة كانت تحت سيطرة الجيش العراقي، وقيل وقتها إنه لم يكن هناك جنود في الواقع على الأرض بنفس العدد المسجل في الأوراق الرسمية. وأن هذا هو أحد أسباب وأسرار السقوط السهل لهذه المناطق في أيدي داعش.

لن تكون مفاجأة كبيرة أن يكتشف العالم أن شيئا مماثلا يوجد في أفغانستان لاسيما في ظل إنفاق سخي من جانب الولايات المتحدة لتسليح وإعاشة ودفع مرتبات الجنود الأفغان. أي أن هناك إغراء كبيرا لتسجيل أكبر عدد ممكن من الجنود للحصول على التمويل اللازم لهم. لا نقطع بأن هذا هوالواقع ولكن لن نستغرب حدوثه.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن حجم الإنفاق الأمريكي على القوات الأفغانية وصل في السنوات الأخيرة إلى 11 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ يساوي أكثر من أجمالي الناتج المحلي الأفغاني بأكمله.

الحديث عن القوات الأفغانية لابد أن يستتبع التطرق إلى طالبان، العدو الرئيسي لتلك القوات، والتي قويت شكوتها خلال الأشهر الأخيرة. ومن المؤكد أن الإعلان عن انتهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية والدولية سيشكل عامل تشجيع وتحفيز لها لشن المزيد من الهجمات، وتوسيع نطاق عملياتها التي لم تتوقف بالفعل حتى في ظل وجود القوات الغربية.

كل الأرقام الرسمية المعلنة تؤكد هذه الحقيقة وتظهر إلى أي مدى تتجه هجمات طلبان نحو الزيادة العددية والنوعية. ووفقا لهذه الأرقام فقد قتل خلال العام الماضي نحو خمسة آلاف جندي أفغاني حكومي في عمليات قتالية مع طلبان وغيرها. وتشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى سقوط نحو 3200 مدني قتلوا خلال نفس العام بزيادة 20% عن عام 2013 وهو ما يجعل 2014 أسوأ الأعوام على صعيد الخسائر البشرية في أفغانستان منذ بداية الغزو في 2001. هذا لا يعني فقط أن الاستقرار ما زال أملا بعيدا، ولكن يعني أيضا أن الأمور تتجه لمزيد من التدهور الأمنى.

يبقى بعد ذلك الإشارة إلى عاملين مهمين يشكلان مع ما سبق أهم ملامح الأزمة الأفغانية المعقدة، أولهما هو انتشار وتنامي زراعة وإنتاج المخدرات وهي من المشكلات الأفغانية المزمنة قبل وبعد الغزو. بل إن ما تردده الصحف الغربية نقلا عن مصادر محلية وأجنبية يفيد بأن معدلات إنتاج وزارعة الأفيون زادت في بعض مناطق أفغانستان عن المعدلات المعروفة قبل الغزو الأمريكي الغربي.

خطورة هذا الأمر تتعدى المخاوف من إغراق الأسواق العالمية والإقليمية بالمخدرات بخاصة مع رحيل القوات الغربية وسهولة التهريب خارج الحدود، ولكن تكمن الخطورة أيضا في أن رواج هذه التجارة يضمن توفير التمويل اللازم لبارونات الحرب المحليين بما في ذلك طلبان لمواصلة القتال إلى أمد غير معلوم.

العامل الآخر هو حالة الجمود السياسي الذي يخيم على الساحة الأفغانية منذ الانتخابات الرئاسية قبل أكثر من ثلاثة أشهر. ولا يتوقع كثيرون أن يؤدي الاتفاق بين الرئيس المنتخب أشرف غاني وغريمة رئيس الحكومة عبد الله عبد الله على المناصب الشاغرة في الحكومة إلى إعادة الاستقرار السياسي أو بداية تعاون مخلص وحقيقي بينهما. ذلك أن فجوة الثقة بين الرجلين ستبقى قائمة وستبقى أيضا عاملا معوقا تدفع أفغانستان ثمنا باهظا له.

الرؤية الشاملة للواقع الأفغاني بعد ذلك العرض تضعنا أمام صورة قاتمة لدولة تعصف بها الفوضى، تقع أجزاء كبيرة من أراضيها خارج سيطرة حكومتها الضعيفة المنقسمة، ويتفشى فيها الفساد، وليس لها قوات عسكرية قادرة على فرض هيبتها وحماية مواطنيها، مع غياب شبه كامل لآليات الحكم وأدواته وخدماته اليومية للمواطنين، ووجود عدو متنمر هو طالبان ما زال يحلم باستعادة مجده الغابر. كل هذا على خلفية نسيج اجتماعي ممزق بين مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية وقومية مختلفة ومتناحرة وتدخلات خارجية غير بريئة.

لن نتحدث عن التنمية أو التعليم والرعاية الصحية أو التعمير أو فرص العمل فكل تلك رفاهية لا يحلم بها المواطن الأفغاني المغلوب على أمره.