ظفار وصلالة.. سلطة السياسة عندما تمتثل لأوامر الطبيعة –
ظفار – «القدس العربي»: لا يمكن تصور طريقة يمكن بواسطتها التخلص من مزيج الطاقة الإيجابية الذي تنتجه مدينة صلالة المحاطة بجبال ظفار عند زائرها خصوصاً إذا كان قرأ وسمع لكنه لم يشاهد بأم العين كما يقول محسن دلال الشاعر الفلسطيني الذي يصر على التوقف في صلالة بين الحين والآخر للتزود بالوقود النفسي. حاستان فقط تشتعلان بمجرد مصافحة الغيوم وتساقط رذاذها في جبال ظفار العمانية.. اللمس والشم.سرعان ما يشتم الزائر رائحة الأرض، كما هي بدون مزوقات أو ماكياجات أو مساحيق وبدون بشر وعند الصعود أكثر تتفاعل حاسة اللمس فيتساقط رذاذ الغيوم فعلا لا قولا ويرتطم بالوجه أو الكف أو الذراع.
يحصل ذلك لأن القيادة السياسية العليا والمرجعية قررت الامتثال لأقصى تعليمات البيئة صرامة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الغابات الساحرة فوق جبال ظفار في صحن بحر العرب حتى بات وكأن كل أحجار المكان عبارة عن محمية خاصة.
حتى اللون الأسود الذي يحيط بالبيوت المتناثرة هنا وهناك بسبب الهطول الكثيف للمطر لم يتصرف أهل المكان لإزالته أو تبييضه. فعلى هذه الجبال «كل شيء طبيعي والقرار أن يبقى كذلك»…هذا ما يقوله المسؤول الإعلامي النشط جدا للبلدية سالم النجار لـ «القدس العربي» وهو يصطحبها للجولة الأولى في بعض الجبال المحيطة بمدينة صلالة.
يمكن تلمس السؤال في أحرف كل أبناء المكان الحريصين على التوسع في اجتذاب السياح بدون المجازفة في التكوين الطبيعي، فالمسافة الفاصلة حساسة للغاية ومفتوحة على كل النهايات بين «التلوث» الذي يسببه التوسع بالاستثمار السياحي وبين الحاجة الملحة للحفاظ على الخصوصية وتجنب إيذائها.
بوضوح شديد لا يريد العمانيون سياحة منطلقة وجامحة وتخلع الثوب المحافظ، بل يسعون للحفاظ على هوية التقاليد والتراث مع التوسع في الجذب السياحي وتقديم حلول ناجحة للسياحة العائلية مع الإصرار على عدم التسرع والقفز في الهواء قبل تأسيس البنية التحتية اللازمة من فنادق ومساحات وخدمات.
في رئاسة البلدية يتحدث المختصون عن وجود 17 فندقا في مدينة صلالة بالكاد تكفي لنحو نصف مليون سائح من داخل السلطنة ودول الجوار.
لكن المزيد من الفنادق والشقق الفندقية يجري تأسيسها في استثمارات محسوبة على بوصلة التنمية المحلية خصوصا وان صلالة هي المدينة الثانية بعد مسقط من حيث الجغرافيا والكثافة السكانية والأهمية.
بين السياسة والثقافة
يرحب أهالي صلالة بالضيوف بكرم وحرارة لكنهم متوجسون من الاحتمالات التي تثيرها سيناريوهات التلوث السياحي، فلا البيئة ولا المجتمع ولا الروح العمانية تحتمل توسعات أفقية وعمودية في نشاطات سياحية منفلتة مفتوحة على كل الأجناس، والتحدي الرئيسي كما يقول المسؤولون هو النجاح في تقديم النموذج العماني في التطوير والحداثة والتسامح والسلام والاعتدال في كل شيء.
على هذا الأساس يمكن القول إن سلطنة عمان تشبه بعضها البعض في كل الملامح رغم التنوع والتعدد الهائل في الموروث الفني الشعبي وفي الإيقاع الموسيقي الذي ظهر في حفل ختام مهرجان صلالة حيث رقصة البداوة وإيقاع الصحراء ثم رقصة الزنوج بجانبها حلقة الهجانة بدون تكلف.
المزاج العماني السياسي يشبه شقيقه الثقافي والاجتماعي، فالابتسامة والحديث البطيء والإصغاء وتجنب الانفعال من ملامح الشخصية العمانية.
وهي أيضا من ملامح القرار والاتجاه السياسي العماني في المنطقة والإقليم وعلى هذا الأساس يمكن فهم مضمون رسالة عمدة صلالة وظفار سالم بن بخيت، وهو يؤكد أن السلطنة حباها الله بقيادة حكيمة وهي مرتاحة لنفسها ولا تتدخل في شأن أحد وترى أن على الآخرين ألا يتدخلوا في شؤونها.
هنا يستذكر العمانيون محطات سياسية مهمة تعكس طبيعتهم غير العدائية وغير المتسرعة فالسلطنة أبقت على العلاقات مع مصر في عهد أنور السادات بعد كامب ديفيد والمقاطعة العربية التي لم تلتزم بها مسقط والسلطنة وقفت مع صدام حسين في الحرب مع إيران، وأول جيش عربي هب لنجدة العراق هو الجيش العماني، وعندما حصل الخطأ واحتل صدام حسين الكويت وقفت عمان فوراً مع الكويت وحاربت معها.
السلطنة بهذا المعنى تتبع سياسة الوضوح والبساطة -يشرح ابن بخيت- وتجنب المراوغة ولا مجال للمزايدة عليها عروبياً وقومياً وعلاقتها بالجوار جيدة وإيجابية ومنتجة والهدف منها خدمة قضايا الحقوق العربية.
مهرجان صلالة
مسألتان لا يمكن إسقاطهما من الحسابات عندما يتعلق الأمر بمهرجان صلالة الشعبي للثقافة والفنون.
الأولى هي قدرة أهل المكان ومنظمي المهرجان العجيبة على التحدث بلسان واحد ليس فقط عندما يتعلق الأمر برسائل الترحيب بالضيف بل أيضا عندما يتعلق الأمر بالوقوف خلف شعار أقترحه عمدة صلالة … وهو «حب عمان يجمعنا».
رقصات متنوعة تعكس البيئة والأهازيج والتفاعل مع موجات البحر وهواء الصحراء العليل كان أكثرها إثارة للانتباه رقصة الزنوج الطويلة فيما كان الجمهور في حفل اختتام المهرجان يتراقص على أنغام أغنية تعكس تلك الروح العمانية الغامضة وهي تقول(بالصداقة تجنبنا المكيدة).
قبل ذلك مزج المنظمون بين الترفيه الاجتماعي الشعبي المحافظ وبين الفقرات الفنية والثقافية حيث معارض للتراث وأخرى للصور وتمارين ميدانية على إيقاع الطبل والأناشيد الوطنية وكرنفال من السعادة والحركة مصمم لإرضاء العائلات وليس الأفراد إضافة لمسرحيات كوميدية ونشاطات نقدية وثقافية.
ثقافة لكن سياحية
صلالة لا تتحدث عن نفسها إلا عبر الكل السلطاني العماني…هذا ما قاله عمدتها ردا على استفسار عن احتمالية تغيير المعادلة في صلالة وظفار باتجاه الاستثمار السياحي الذي يلتهم الجماليات ويعيد إنتاج المكان بصورة سلبية. العمدة وافق على استنتاج «القدس العربي» بأن الخريطة السياحية مستقبلاً لصلالة وجوارها الخلاب ينبغي أن يبقى بريئاً ونقياً كما هو الآن مشيراً إلى أن أجهزة بلديته وجميع المؤسسات معنية بالامتناع حتى عن «خدش» غصن شجرة أو حبة تراب في جبال ظفار بصرف النظر عن الرغبة في الترويج والتوسع في اجتذاب السياح.
بلدية صلالة تمنع التوسع في بناء المساكن في جبال ظفار المجاورة ذات الطبيعة الخلابة وتحصره فقط في أهل القرى الجبلية، وفي أضيق نطاق ممكن حفاظاً على نقاء المنطقة وحتى لا تلتهم الحجارة الأعشاب.
مرافق عماني ابلغ «القدس العربي» بالسر وراء منع التوسع العقاري في جبال وأودية ظفار فلو سمح بذلك لهاجم السعوديون والإماراتيون وغيرهم المكان وأقاموا مشاريعهم الخاصة مما يعني أن المكان سيتغير وقد لا يعود ظفاريا أو صلاليا. بالنسبة للعمدة، سلطنة عمان لا تختلف عن طبيعة أرضها وجبالها فهي ناعمة، ودودة، حانية ومليئة بالطاقة الإيجابية لكنها حاسمة وحازمة ولديها مخالب عندما يتعلق الأمر بأي محاولة للمساس بثوابتها أو بمصالحها العليا، يفضل مسؤول عماني ترديد العبارة التالية «نحن لا نعبث مع أو بأحد لا في السياسة ولا الاقتصاد ولا السياحة ولدينا خصوصيتنا السلطانية الوطنية ونتوقع ألا يحاول أحد العبث معنا».
اقتراح العمدة المثقف على الجميع ألا يجربوا سلطة عمان عبر الإساءة إليها فهي تحترم الجميع ووقفت دوما مع أمتها وفي صمت.


