عودة “بعبع” الرأسمالية إلى أوروبا..!

زكريا فكري –

جيلنا تتلمذ قي الجامعات على نظريتين اقتصاديتين متعارضتين.. الأولى نظرية آدم سميث “دعه يعمل دعه يمر” ، والثانية نظرية كارل ماركس “كل بحسب حاجته”.. الأولى تدعو للاقتصاد الحر والثانية تدعو للاقتصاد الشمولي.. الأولى تعلي من قيمة وحرية الفرد، والثانية لا تعترف بالفرد وإنما بالجماعة.. الأولى نمت وتطورت وسادت العالم بل وتوحشت، والثانية اضمحلت وتضاءلت وتكاد تنقرض من العالم تطبيقيا إلا من بعض شواهد هنا أو هناك.ادم سميث الذي ظهر في القرن السابع عشر لا يزال مؤثرا بفكره على الاقتصاد العالمي حتى اليوم.. وتعتبر اتفاقية التجارة العالمية التي تتسابق دول العالم على الانضمام إليها اليوم ما هي الا نتاج فكر ونظرية ادم سميث الفلسفية القائمة على التبادل السلعي الحر والاستفادة من الميزات التي تتمتع بها كل دولة عن الأخرى بحيث تكون العلاقة بين دول العالم علاقة تكاملية في الإنتاج والاستهلاك .

نظرية ادم سميث ربما تطبق حاليا ولكن بشكل انتقائي وهذا يعتبر مصدر تهديد لها جعل العديد من المنظرين يتوقعون لها أن تلحق بنظرية كارل ماركس وتنحى جانبا إذا استمر تجاهل مبدأ عدم تدوير رأس المال وتركيز الثروات في ناحية من العالم دون الأخرى وتصدير الأزمات من وقت لآخر إلى الدول النامية التي هي أساسا تتمتع بميزات نسبية يجب وضعها في الحسبان وادخالها في عجلة الاقتصاد العالمي.. اتفاقية التجارة الحرة تمنح الدول الموقعة عليها ميزة نسبية بحيث لا تخجل أي دولة من استيراد سلعة قليلة التكلفة من دولة اخرى تنتجها بتكلفة أقل، وأن تصدر كل دولة سلعا تقل تكلفتها عن مثيلتها لو تم تصنيعها في هذه الدولة- اكمل ديفيد ريكاردو نظرية سميث فيما يتعلق بالميزة النسبية لكل دولة-

ادم سميث لم يذكر في نظريته او في كتابه “ثروة الامم” انه يمكن استخدام هذه الآلية في معاقبة الأمم أو وايجاد نوع من التكتلات المهيمنة وإنما دعا إلى التكامل ولم يدعو إلى فرض الحظر والعقوبات وهو امر ادخله السياسيون كنوع من التحكم والسيطرة وتحجيم الطموحات.. كما ان ادم سميث لم يذكر ان مدخرات العالم الناجمة عن الارباح والتي هي ضمانة للنمو يجب ان تتركز في ايدي 2% من السكان يوجهونها بشكل انتقائي دون ان يكون هناك تداول للمال بمفهومه الواسع.

لذا فإن الأزمة الحقيقية التي تظل من وقت لآخر تهدد الرأسمالية والاقتصاد الحر هي أزمة تدوير رأسمال العالم الذي يعتبر الدينامو الحقيقي للتطور والتنمية.. ورأس مال العالم لا يزال حكرا على جزء من العالم دون الآخر.. هذا الجزء من العالم هو الذي صنع ما يعرف بالأزمة المالية العالمية في عام 2008 او ما يعرف بأزمة الرهن العقاري التي سرعان ما اتسعت وشملت الجميع واستعصت على الحل وما زلنا نعاني من تبعاتها ويتردد شبح تكرارها من وقت إلى آخر.

ووفقا للاقتصاد الحر فأنت لا تستطيع ان تنتج ما دمت لا تستطيع ان توجد أسواق مستهلكة بحيث يخرج المنتج في بلد ويستهلك في بلد آخر، وهذا البلد الآخر يتمتع بميزة انتاجية لسلعة معينة فيستهلكها بلد ثالث وهكذا. وإلا تركزت الثروات في البدان المنتجة على حساب البلدان المستهلكة التي لديها طفرة مالية دون أن يكون لديها إنتاج حقيقي.

ولعل أكثر الدول المستهلكة يقوم اقتصادها على الطفرات المالية التي سرعان ما تستهلك وتذهب إلى حيث تجمع مراكز المال في العالم مثل لندن نيويورك سويسرا بكين دون ان تنفذ سياسات اقتصادية تضمن لها ميزة نسبية في منتج ما يعوض معدلات الاستهلاك لديها.

لذا فإن إعادة التوازن للاقتصاد العالمي مهم وضروري بحيث لا تكون الثروة حكرا على بلد دون الآخر. ولعل هذا ما دفع رئيس المنتدى الاقتصادي بدافوس (2012) البروفسور كلاوس شواب إلى الإشارة إلى أهمية “إعادة التوازن للاقتصاد الرأسمالي، الذي مازال يعاني تداعيات الأزمة المالية في نصف الكرة الشمالي من العالم وتحديدا في أوروبا، والتحديات التي تواجه النظام الرأسمالي العالمي” وهذا يثبت أن الخلل سببه الجزء الشمالي من العالم وليس الجزء الجنوبي المستهلك في الأساس لصناعات الشمال.

اما دافوس 2015 فقد كانت للبروفيسور كلاوس شواب مطالبات مختلفة… فهو يدخل السياسة في المنتدى هذه المرة مكتفيا بدعوة العالم للتكاتف والتعاون وهو كلام بلا شك عاطفي لا علاقة له بالاقتصاد… رغم ان محور النقاشات الرئيسي في المنتدى هو الاقتصاد، وكان يجب على المنتدى ان يتطرق إلى ما سبق وتم تناوله حول اهمية اعادة التوازن للنظام الرأسمالي وماذا تم في هذا الصدد، لاسيما وان أزمة الديون لم تنته بعد. كما ان المنتدى عقد في ظل موجة من التشاؤم قادتها توقعات صندوق النقد الدولي بخفض النمو العالمي بـ0,3 نقاط في 2015 (3,15%) وفي 2016 (3,7%) فيما يسجل الاقتصاد الصيني تباطؤا ويسود الارتباك والترقب منطقة اليورو بسبب اليونان التي فاز في انتخاباتها مؤخرا اليسار الرافض لسياسة التقشف التي فرضها على بلاده الاتحاد الأوروبي ، وباعتلاء اليسار للحكم يطل على أوروبا مرة أخرى فكر كارل ماركس… الفزاعة التي عانت منها الرأسمالية كثيرا وبسببها عدلت من مسارها أكثر من مرة حتى لا توسم بالتوحش وابتلاع الفقراء.