حسن مدن –
قرأت في «بورتريه» نشرته صحيفة مصرية للشابة شيماء الصباغ، التي سقطت شهيدة في مسيرة أقيمت في القاهرة عشية الذكرى الرابعة للثورة المصرية في 25 يناير 2011، كان هدفها إحياء ذكرى شهداء تلك الثورة، الذين كانوا بالمناسبة كلهم أو جلهم من الشبان من الجنسين.في البورتريه المؤثر استوقفني ما نقل على لسان الشابة الشهيدة قولها وهي واقفة على خلفية خيام المعتصمين أمام قصر الاتحادية يوم 30 يونيو، حيث قبع الرئيس السابق محمد مرسي» لما يقارب العام: «مش معترفة بمرسي ولا حكومته ولا كل القرارات اللي اتخذها، أنا مش معترفة بأي حاجة حصلت في عهد المجلس العسكري، أنا لم أتخط مرحلة الـ 18 يوم بتوع الثورة لحد دلوقتي».
عرفنا اسم هذه الشابة السمراء المتقدة بالحماس والأمل في التغيير لأنها استشهدت، فيما كان يجب أن تعيش لتواصل حلمها، الذي هو حلم الملايين في العالم العربي من الشبان الذين هبوا مطالين بالتغيير، ويشعرون، الآن، بالإحباط الشديد لأن آمالهم صودرت أو أجهضت، وما شعروا في لحظة أنه بات في متناول أيديهم، أو أنه على قاب قوسين أو أدنى منها، سرعان ما ظهر أنه تبدد أو نأى بعيداً، وأن بنية الاستبداد أرسخ وأقوى مما كانوا يظنون، وأن جهوداً أعظم وتضحيات أكبر يجب أن تبذل في سبيل فتح الطريق نحو المستقبل.
على صلة بهذا، أذكر استطلاعاً أجرته جريدة عربية، منذ سنوات عديدة، سابقة للتحولات التي أطلق عليها «الربيع العربي»، عن الطريقة التي يصنع جيل اليوم أحلامه وأوهامه، وكيف يبلور الشبان والشابات التحولات التي يمرون بها،
محور الاستطلاع يدور حول سؤال عن أي صورة يتمناها الشاب أو الشابة عن نفسه، وأي شاب يطمح أن يكون. أما المشاركون في الاستطلاع فلم يتقيدوا بالإجابة على السؤال المذكور، إنما راحوا يعبرون أيضاً عن هواجسهم وظروف تشكلهم.
ورغم أن هؤلاء المشاركين كانوا من بلدٍ واحد هو لبنان، إلا أن ما قالوه يعطي، فيما نظن، فكرة عن الطريقة التي يفكر بها الشباب في البلدان العربية الأخرى، مع مراعاة الفروق والخصوصيات طبعاً.
لا يمكن تلخيص الآراء الواردة في الاستطلاع في كلمات أو في سطور، إن ثمة حالات متناقضة يصعب الإمساك فيها بقاسمٍ مشترك، ولكن الملاحظ أن المثل الأعلى بالمعنى الذي فهمناه نحن عندما كنا في سن هؤلاء غائب وإذا كان حاضراً فإنه يأتي في صورة غائمة أو مشوشة.
إحدى الحالات نجدها في نزوع فريق من الجيل الجديد إلى المبالغة في شحن مواقفه بمشاعر انفعالية متطرفة أو حادة تعبيراً عن الشعور بالتهميش، يجد ذلك تجليه مثلاً في أن أحد المشاركين قال أن عبر عن ذلك بأن ثقب أذنه ووضع فيها قرطاً معدنياً، وهو لا يرى في الأفكار والشعارات العامة المعروضة عليه ما يرضي حجم انفعالاته.
المدينة تبقى، كما في السابق، حلم الشباب والشابات الذين ولدوا ونشأوا في القرى أو الأطراف، والمقصود بالمدينة هنا العاصمة تحديداً، حيث السينما والمقهى والعلاقات الرحبة والصداقات. ضجر المدينة، برأي إحدى المشاركات في الاستطلاع، أجمل من ضجر القرية، لأنه في المدينة يحدث وسط حياة سائرة وصاخبة، أما في القرية فإن للضجر طعم الصمت والسكون.
لم يتوقف الاستطلاع كفاية أمام جوانب جديرة بالتوقف، منها مثلاً أسباب خيبة الأمل أو الإحساس بانعدام الأفق أو سقوط المثال في أذهان الشباب، بملاحظة حجم التحولات الاجتماعية والديموغرافية والنفسية التي طالت العالم العربي في السنوات الأخيرة، وأدت إلى ما أدت إليه.
وأذكر أني قلت في خلاصة تعليق كتبته حول هذا الاستطلاع، انه علينا أن نضيف أن حالة السكون أو السلبية التي نشهدها لدى قطاع واسع من الشباب هي حالة مخادعة وليست أكيدة، فالاهتمام بالشأن العام قد يتوارى مؤقتاً ولكنه سرعان ما يعود على شكل صدمة من الصحوة تباغت من لا يتوقعها.
وهذا ما حدث ويحدث بالفعل، فكيف نريد للشباب العربي ألا يكون ناقماً على الأوضاع إذا كانت هذه الأوضاع سيئة، وكيف نستهجن لجوء قطاعات من الشباب إلى التمرد، إذا كنا قد أقفلنا بوجه هذا الشباب وسائل التعبير المشروعة، وكيف نندهش إذا ما نفس الشباب عن طاقاته المكبوتة بوسائل لا تروق لنا طالما كنا عاجزين، أو عازفين، عن تأمين وسائل التنفيس الخلاقة لهذه الطاقات .
هذه وسواها تشكل أسئلة محورية برسم الجهات المعنية بشؤون الشباب في الوزارات والهيئات المعنية. ثم أين هي الجهود التي تبذل في سبيل تأسيس ثقافة التسامح والتآخي في المجتمع، في مقابل ما يبذل من جهود، من جهات عدة، لتقويض أسس العيش المشترك وتعزيز عوامل الفرقة والكراهية أو الشك بينهم.
كم من الجهود يجب أن تبذل في المدارس والجامعات وفي الأندية الثقافية وفي المساجد والجوامع وفي البيوت لإحداث النقلة الضرورية في وعي الشباب، لأن ميول التعصب والتشدد لا تنشأ إلا في مناخ التعبئة بالتطرف الفكري والعداء للآخر، كائنا من كان هذا الآخر، وغياب التسامح والمرونة. وما زلت أذكر وقائع مناقشة أعقبت ندوة للدكتور جابر عصفور أقامها في البحرين منذ أعوام قليلة، حين عبر البعض من تطيره حتى من مفردة التسامح ذاتها، واعتبرها دليلا على الاستسلام والخنوع أمام القوى المتكبرة، فيما نحن نفتقد التسامح حتى مع أنفسنا، وبين الآراء المختلفة في أوساطنا، وتشيع ثقافة التفكير والتخوين والإقصاء والنبذ.
وان لم توجه مناهجنا التربوية ومحاضراتنا الدينية والثقافية نحو غرس فكرة التسامح فان الآلية التي تنتج التعصب والتطرف ستستمر في توليد شبان بهذا النسق من التفكير.
مسؤولية القوى الوطنية والحديثة في هذا المجال مسؤولية مضاعفة ودقيقة، فنشاط هذه القوى في صفوف الشبيبة والطلبة والأجيال الجديدة عامة نشاط محدود وضعيف، وعلى المستوى العربي العام فان بنية هذه القوى تتسم بالكهولة وحتى بالشيخوخة.
وهذا يجعل الجيل الجديد يعاني من الضياع الذي يجعله لقمة سائغة أما للميول السطحية الاستهلاكية أو للتيارات المتشددة، وبالتالي عوضاً عن أن ينشا لدينا شباب برؤية علمية، عقلانية، متسامحة، متفتحة، ينشأ هذا الجيل بروح الجهل والتعصب الأعمى والنقمة على العالم وعلى الحياة وتستحوذ عليه روح سوداوية متشائمة تدفعه نحو أقصى الخيارات تشددا ليرى فيها خلاصا للذات ونجاة للجماعة.
لكن نموذج شيماء الصائغ يشير إلى أننا بصدد شريحة مختلفة من الشابات والشبان العرب، المتحررين من قيود التطرف، ويحملون رؤية تقدمية للعالم والأشياء من حولهم، وتصوراً لمجتمعات ديمقراطية عصرية تصون الحقوق. ومن يطالع بعض مدونات الشباب على الانترنت أو يقرأ تعليقاتهم وإنطباعاتهم على «تويتر» أو «فسبوك»أو سواها من وسائل الإتصال الاجتماعي سيتعزز هذا الانطباع عنده، جنباً إلى جنب عن التساؤلات التي يثيرها التصنيف «الإجناسي» لها، فأصحابها هم شباب ممن لم يسبق لهم ان أصدروا كتباً أو مؤلفات يعرفهم القارىء من خلالها، ويذكر أن «دار الشروق» المصرية خصصت سلسلة من إصداراتها لنشر محتويات بعض مدونات الشباب الشهيرة في مصر، من الجنسين.
وكان مفاجئاً أن بعض كتب هذه السلسلة أعيد طباعتها عدة مرات نظراً للاقبال الكبير عليها، وكان من الصعب تصنيف محتوى هذه الكتب في أي خانة من الخانات الأدبية التي نعرفها، فهي ليست قصص قصيرة، وليست رواية، رغم ما يجمعهما معهما من سرد، وهي ليست شعراً، رغم أن بعض الصور التي تتضمنها نصوصها يمكن ان ترتقي إلى مقام الشعر، ولكن لكي نصغي برهافةٍ لهواجس وتطلعات وآمال ومشاريع الشباب من الجنسين علينا أن نولي ما يكتبونه في مدوناتهم على الشبكة العنقودية، عناية كبيرة، لأننا عالماً حقيقياً يضج بالحياة والتفاعل مع معضلاتها وهمومها، وسنتعرف الى مشاريعهم التي تتخطى «افتراضية» الانترنت ووهميته، لتشتبك مع الواقع في أكثر تجلياته مباشرة وتعقيداً.
أكثر من ذلك فإن هذه المدونات تكاد تكسر الصورة النمطية الراسخة في الأذهان عن كون الانترنت عالماً افتراضياً يُزيف الواقع، بالانعزال عنه وبإقامته لعالمٍ بديلٍ، على نحو ما يذهب كثير من الدراسات في علم الاتصال. عبر مدونات الشباب ومواقعهم الحوارية يغدو الانترنت وسيلة لتشكيل رأيٍ عام حول القضايا الساخنة في المجتمع، لا مجرد شاشة لتبادل الخواطر الوجدانية التي يُنفس من خلالها الشباب عما يتعرضون له من كبيتٍ مُحيط.
في أحد أعداد مجلة «الهلال» نشر ملف كُرس لقضايا المرأة المصرية، تضمن مقالة كتبتها إعلامية شابة، هي لبنى عبد المجيد، عن المُدونات المصريات، مُقدمةً أمثلة لافتة مما تكتبه الشابات المصريات على مدوناتهن الالكترونية. حسب المقالة فإن النساء يشكلن أكثر من ٠٥٪ من المدونين في مصر، وقد أمدت هذه الوسيلة النساء بأداة تعبير عن أفكارهن ومشاعرهن بحرية كبيرة، كما أتاحت لهن فرصة التواصل مع بعضهن بعضاً حول ما يثير ضيقهن من أمور تتعلق بوضع المرأة ومكانتها في المجتمع.
تلك نماذج تُظهر الأشكال الجديدة للتعبير للشبان والشابات، وتُرينا أن الحياة تدب في مسارات أخرى غير مألوفة وغير مطروقة بالنسبة لأبناء الأجيال الأكبر. ولأن التعميم عادة منبوذة، فعلينا الإشارة إلى أن التحولات السلبية في المجتمعات العربية تلقي بظلالها الثقيلة أيضاً على ما يُنشر في بعض المدونات وفي المنتديات الالكترونية، حيث نجد بعضها يتحول إلى وسيلة لترويج النزعات الطائفية أو التكفيرية والظلامية، ولكن هذا لا يجب أن يحجب أبصارنا عن رؤية العالم الآخر الذي يضج بالحياة في مدونات شبابية أخرى، جديرة بالمعاينة والدراسة.
عبر مدونات الشباب ومواقعهم الحوارية يغدو الانترنت وسيلة لتشكيل رأيٍ عام حول القضايا الساخنة في المجتمع، لا مجرد شاشة لتبادل الخواطر الوجدانية التي يُنفس من خلالها الشباب عما يتعرضون له من كبت مُحيط.
التجربة تظهر أن مثل هذه التعبيرات يمكن أن تخرج من «غرف» الانترنت الضيقة، لتعم فضاءات الحياة الواسعة.