نوافـذ: في مكان ما !

هـدى حـمـد –

يحدث أن تخرج من بيتك لتكون في ضيافة بيت آخر، في بقعة نائية من عمان. بعيدة عن كل أشكال الحياة. كأنك تدخل آلة الزمن لتصطدم بحياة حكى لك أجدادك عنها ولم تعشها أصلاً.ستنظر في أعين أولادهم المتحفزة لحياة لم تختبرها من قبل. ستكون على موعد مع أيديهم الباردة كقطعة ثلج. أيديهم النحيلة كأن طعاماً لم يدخل جوفها منذ أيام. أقدامهم حافية وملابسهم مهلهلة كأنهم لا يعرفون طريقا إلى السوق. ورغم كل الشقاء الذي تقرأه في أعينهم، سيبتسمون لك، وما أن تسألهم عن حالهم، سيحمدون الله كثيراً كأنهم ملوك على الأرض.

ستقول لأمهم بخوف: «لا ينبغي أن يمشي أولادك حفاة فوق صخور خشنة، لا ينبغي أن يكونوا لوحدهم في السيح الفسيح من دون رعاية». سيبدو كلامك كنكتة سمجة، وفي غير محلها. فالوضع الطبيعي أن يخرجوا وهم أبناء السابعة والثامنة خلف الماشية للرعي.

ستنظر إلى بيتهم الذي يكاد يخلو من كل شيء، حتى من أساسيات الحياة. سينفطر قلبك على الصغار المتقاربة أعمارهم، ستحملق طويلاً في «شعرهم» المسافر فوق أكتافهم كأن مشطا لم يمر فوق رؤوسهم.

ستسأل لو كان لديهم تلفاز، وستقول البنت بفرح: «عندنا ونشوف السنور والفار». وسيطير عقلك ما أن ترى التلفاز الذي ينبغي أن يدخل لأحد المتاحف التي تعرض التفاصيل العتيقة لحياة الإنسان.

ستتفاجأ من عزة أنفسهم وهم يحمدون الله ويتعففون عن أي مساعدة تعرضها. ستتفاجأ من رغبتهم في البقاء في تلك البقعة معزولين عن أي شكل من أشكال الحياة الجديدة.

ستذهب إليهم وأنت تظن أن حياتهم تعيسة ولا بارقة أمل لديهم، ولكنك ما أن ترى أعينهم.. ذاك البريق الخاص والذي لا ينسى.. «من يدري.. ربما يتغير رأيك».

في القرن الحادي والعشرين..بيننا أطفال يكبرون بلا ألعاب الكترونية، بلا قنوات فضائية. يستيقظون على قرصات الشمس وينامون تحت النجوم، وأكبر هدية يحصلون عليها، أن يكافئهم والدهم بـ«جاعدة» أو تيس صغير من المواليد الجديدة، فيكبر الفرح فيهم كأنهم امتلكوا الكون.

قبل أن تبتعد قدميك عن بيتهم وبعد أن تتأمل الخلاء الفسيح الذي يحيط بهم، ستسأل الصغار: «هل تذهبون إلى المدرسة؟». سيتقافزون من حولك مجددا: «نروح المدرسة» وستضيف البنت الشقية: «أنا شاطرة في المدرسة».

سيسعدك الأمر وستحس بالاطمئنان عليهم، وطوال الطريق إلى بيتك ستستشعر فرحاً خاصاً وجديداً.. لن تشعر بالسعادة لأنك فقط تركت لهم سلال الفواكه، وبعضا من البطانيات لليل شتوي قارص وهدايا وألعاب لم يتعرفوا عليها من قبل، لن تكتفي بسعادتك وأنت تستبدل استحمام اﻷسرة بتسخين الماء على النار، بسخان كهربائي أدهشهم، كأنه حط للتو من الفضاء.. لكنك ستفرح ﻷنهم يأخذون حقهم من التعليم، وأنت تعرف في أعماقك أن الأفكار لن تتغير بين يوم وليلة إلا عندما تعزز بالتعليم والمعرفة.

وأنت أيضاً ستغير بعض قناعاتك الجاهزة.. فهؤﻻء رغم حياتهم البسيطة والعدمية من كل ما تظنه مهما.. يمتلكون سعادتهم الخاصة، يمتلكون أحلامهم ولعبهم. إنهم ليسوا بؤساء كما نظن. من يدري.. ربما اللهاث وراء تيس في سيح فسيح يترك أثراً أكثر إيجابية من اللهاث خلف الشاشات الالكترونية.

موقف صغير كهذا.. يجيب عن أسئلة كثيرة حول عمانيين بقوا طويلاً متعلقين بصحاريهم، بكهوفهم، بجبالهم الشامخة والنائية، بأماكن قد لا يصلها إلا طيار أو بحار شاطر. ولعلنا نتساءل في القرن الحادي والعشرين كيف يعيشون بعيدا عن روح المدينة، ولماذا كانت الحكومة تذهب إليهم بدلا من أن تدفعهم لمغادرة أمكنتهم المحفوفة بالمخاطر وصعوبة وصول الخدمات، بل لماذا لم تفكر في التكلفة الباهظة التي تدفع لأجل إعداد الشوارع والمدارس والمستشفيات ؟

بقليل من التفكير والتأمل نكتشف الحكمة في بقائهم حيث هم ..ليحفظوا التنوع البيئي والثقافي والاجتماعي. ليحفظوا الحدود العمانية. و قبل هذا وذاك.. يبقى من الصعب تغيير قناعات الناس، وإن كنا نرى حياتهم متأخرة نسبيا عن الأشواط التي قطعتها المدن العمانية الأخرى.. فالرهان على تعليم أبنائهم.. التعليم ثم التعليم.