نوافـذ: عن الدم الرخيص

هـدى حـمـد –

المفارقة الغريبة هي أن اقرأ «بروفة» لكتاب مُهم سيصدر قريبا مع مجلة نزوى، يحتوي على عدد من المقالات المُهمة للمفكر الكيني الذي ينتمي لأصول عُمانية، علي المزروعي، تحت عنوان: «براهمة العالم ومنبوذوه»، ترجمة زميلنا المثابر أحمد المعيني، حيث يعود زمن كتابة هذه المقالات لنهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ولكنها لا تزال تضج بحرارتها كأنها كتبت لواقع اليوم.

المفارقة ليست فقط في أن اقرأ آراء مُهمة لكاتب لم يعرفه كثر من العمانيين إلا عندما انتقل إلى رحمة الله، ولكن المفارقة تكمن في أن اقرأ هذه «البروفة» في زمن حادثة شارل إبدو. الحادثة التي أقام لها العالم ضجيجا لا معقولا، فمرّت أيام طويلة لا نسمع ولا نقرأ ولا نشاهد فيها سوى هذه الحادثة التي غطت بصورة لافتة على حوادث موت أطفال سورية في صقيع البرد، غطت على كل الدماء التي تُسفك هنا وهناك، غطت على الموت والمقابر الجماعية التي تكتشف في سوريا، غطت على قضايا التهجير والتشريد وعلى فرض التأشيرات على لاجئين لا يملكونها على الحدود، غطت على تدمير سافر وبيوت تسقط فوق ساكنيها المدنيين العُزل في غزة، غطت حتى على هبوط سعر النفط المُفاجئ في الخليج الذي تترتب عليه سيناريوهات مُقلقة.

نحن بالأكيد ضد حادثة شارل إبدو بالمطلق، ضد أن تتم تصفية الحسابات بهذه الهمجية العدوانية، كما أننا من جهة أخرى ضد أن تتم الإساءة إلى شخص النبي الكريم، والمساس بقداسته التي تمتد لأربعة عشر قرنا ونيفا.

ولكن ليس هنا مربط الفرس، وإنما في ردة الفعل المُفاجئة، حيث ارتعش العالم واحتشد، وتضامن وندد وقدّم العزاء والأسف، وفتح الإعلام ملفات الواقعة، كأنها الحدث الجلل الوحيد الذي أثار حفيظة العالم وقلقه، في وقت تعج فيه الدماء كالمطر.

سأستند إلى ما قاله علي المزروعي من أفكار تتقاطع كثيرا مع هذه الحادثة وتبعاتها حين قال: «ضحايا الإرهاب من المدنيين أقل من ضحايا الحرب. الإرهاب هو سلاح الضعفاء عسكريا لأن الأسلحة النووية هي سلاح المتطور تقنيا». يا الله.. هل لنا أن نقارن بين ضحايا هذه الحادثة (التي نتفق في كل الأحوال على أنها حركة إرهابية) وصل عدد ضحاياها إلى 12 روحا، وبين القصف الأخير على غزة حيث تشير الإحصائية النهائية التي أعدها المرصد الأورومتوسطي إلى أن عدد الضحايا الإجمالي بلغ 2,147 قتيلاً، منهم 530 طفلاً؟ هل يمكننا أن نقارن هذه الحادثة بعدد الأبرياء السوريين والعراقيين الذين تُشيع أجسادهم بشكل يومي، من دون أن يرف جفن العالم؟!

هذه الحادثة كشفت أن الأرواح في العالم غير متساوية، وأننا نعيش ضمن مراتب وطبقات، وكل فرد منا تتحدد قيمته بقيمة الفئة التي ينتمي إليها. هذا ما نعيشه اليوم.. أناس تنتمي حقوقهم وأرواحهم إلى فئة «البراهمة»، وأناس ينتمون إلى فئة «المنبوذين» الأقل حظا في كل شيء. فإن كانت الحرب الباردة قسمت العالم الأبيض تقسيما أيديولوجيا، وساهمت سابقا في منع الطبقية، فإن ذلك تغير اليوم، بحكم تغير المصالح المشتركة، فلم يعد ثمة ما يحول دونما تفشي نظام الطبقية في العالم.

لكن السؤال الأهم: هل هنالك ما يبرر الطبقية؟ وما يجعل بعض الدماء رخيصة تُنسى في اللحظة ذاتها وكأنها لم تكن، وأخرى يتذكرها العالم، بل نجدها تُفسح المجال لسلسلة لا آخر لها من التبعات، سيضطر الملايين من المسلمين لتحمل مُضايقاتها، كما حدث عقب تفجيرات برجيّ التجارة العالمية بأمريكا؟ وليس أدل على ذلك من أن كل مسلم يحفظ تاريخ تفجيرات 11 سبتمبر كما يحفظ اسمه، بينما قد ينسى الموت العربي الوحشي في كثير من صوره وتواريخه.

ذهب المزروعي إلى أن فكرة التقدم تبرر تصنيف المجتمعات من البدائية إلى المتحضرة. فنحن سكان آسيا وإفريقيا محكومين بتراجع الصناعة وبتراجع النفط وبتراجع الاختراعات، وبوفرة الأمية، نحن نُثمن الآن بالمنجز الذي نقدمه للعالم، وأمام هذه الحسبة الصغيرة نحن دم رخيص للغاية، لا ننتج ولا نُصدر سوى «الإرهاب». لذلك علينا أن لا ننتظر الكثير، فـ«المساعدات الخيرية» هي أقصى ما يمكن أن يُقدمه البراهمة للمنبوذين، ليكونوا أكثر ولاءً لليد التي تمتد إليهم، وعليهم أن لا ينتظروا أكثر من هذا إلى أن تقوم لهم قائمة.