في زاوية آراء كتب جواد البشيتي مقالا بعنوان: النَّصْر والتَّحَدِّي في غزة، جاء فيه: الهُدَن (ومنها الهُدْنة الإنسانية) أكانت قصيرة الأمد أم طويلته هي حالة، لها شروطها وأحكامها، تسبقها حرب، ويتوقَّف فيها القتال (أو إطلاق النار) بين المتحاربين حيث تدور الحرب، أو في بعضٍ من مسارحها وميادينها. في «الهُدْنَة»، يتوقَّف القتال، من غير أنْ تنتهي «حالة الحرب»، وقد تقود «الهُدْنة» إلى «صُلْح (سياسي)» بين المتحاربين.
وفي حالة الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، نرى أنَّ «الهُدْنَة (أو الهُدَن)» تختص دائماً بأحد شطريِّ إقليم «دولة فلسطين»، وهو قطاع غزة؛ فالشطر الآخر، وهو «الضفة الغربية (مع القدس الشرقية)»، إمَّا أنْ يكون مشمولاً بـ «انتفاضة شعبية (أو بما يشبهها، أو بما هو دونها من حيث درجة وشدة الصراع)»، وإمَّا أنْ يكون مشمولاً بـ «مفاوضات سياسية» بين الطرفين (مباشِرة، أو غير مباشِرة) تسمَّى «مفاوضات سلام»، أَثْبَتَت وأكَّدت تجربتها الطويلة أنَّها لا تأتي بالسلام، وإنَّما بمزيدٍ من الاستيطان، والتهويد، والنزاع بين الفلسطينيين أنفسهم، وبمزيدٍ من الانفصال بين «القطاع» و»الضفة»، وبمزيدٍ من أسباب الضَّعْف لوعي وروح المقاوَمَة بين فلسطينيي «الضفة».
إنَّ أحداً من الموضوعيين في النَّظر والرؤية والتفكير لا يَشُكُّ الآن في أنَّ رياح الحرب الإسرائيلية (والتي، عن اغترار بالنَّفس، سمَّتها إسرائيل «الجرف الصامد») على قطاع غزة (المُثْخَن بجراح 8 سنوات من الحصار) جَرَت بما تشتهي سُفُن قوى المقاوَمة الفلسطينية فيه؛ فإنَّ «النَّصْر»، بكثيرٍ من معانيه، العامَّة، أو الخاصَّة بالصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، فلسطينيُّ الهوية؛ وليس من مقياسٍ نقيس به «النَّصْر» من «الهزيمة» إلاَّ مقياس «الفَرْق (أو التَّشابه) بين الأهداف (الإسرائيلية، المُعْلَنَة، أو غير المُعْلَنَة) و»النتائج»؛ وكل يومٍ كُنَّا نرى «النتائج» هزيمة واضحة جلية لـ «الأهداف»، التي كان «تَشَوُّشها»، بحدِّ ذاته، دليلاً على أنَّ «الهزيمة» تُخَيِّم على قادة الحرب الإسرائيلية مِنْ سياسيين وعسكريين.
في الحرب، وبها، تُخْتَبَر خَيْر اختبار قدرات «الأُمَّة» جميعاً، وليس العسكريّ والقتاليّ منها فحسب؛ ولن يأتي «الانتصار» إلاَّ باجتماع «الصَّلابة الميدانية (العسكرية والقتالية)»، و»صلابة الجبهة الداخلية (وهي ما يسمَّى «الحاضِنة الشعبية» للمقاوَمة في قطاع غزة)»، و»الصلابة السياسية» للقيادة، وفي أثناء التَّفاوض (السياسي) مع العدو على وجه الخصوص؛ والغاية النهائية لكل حربٍ هي أنْ تُرْغِم العدو، أو الخصم، على أنْ يجنح للصلح معكَ، بما يلبِّي شروطكَ ومطالبكَ الأساسية؛ وكأنَّ العدو يُحارَب من أجل أنْ يُصالَح.
المقاوَمة الفلسطينية في قطاع غزة انتصرت، وتنتصر؛ ولن تتعذَّر رؤية هذا الانتصار إلاَّ على مَنْ اعتاد ذهنه السياسي أنْ يرى «النَّصْر»، أو «الهزيمة»، بغير عَيْن «النِّسْبية»؛ ونحن نَعْلَم، على سبيل المثال، أنَّ فيتنام قد انتصرت على الولايات المتحدة «الفيتنامية»، لا «العالمية»؛ مع أنَّ خسائرها العامة فاقت أضعافاً مضاعفة خسائر الولايات المتحدة، التي لو أرادت «حرباً ليست بحربٍ» لأبادت فيتنام في ساعات معدودة.
«النَّصْر»، وبمفهومه «النِّسْبي»، والذي لا مفهوم غيره يُعْتَمَد، ويُؤْخذ به، أَحْرَزَتْهُ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؛ لكنَّ التَّحدِّي الكبير الذي يُواجهه الفلسطينيون الآن هو «كيف يَحْتَفِظون بالنَّصْر (ويُحافِظون عليه)»، و»كيف يَسْتَثْمِرونه سياسياً واستراتيجياً»، ويُتَرْجِمونه، في المفاوضات، وبها، بما يؤسِّس لـ «واقع سياسي ــ استراتيجي» فلسطيني جديد؛ فَكَم مِنْ «نَصْرٍ عسكري (ميداني وقتالي)» تُرْجِم بـ «هزيمة سياسية»؛ وكم من «هزيمة عسكرية» تُرْجِمَت بـ «نصر سياسي»!
وجُلُّ ما نتمنَّاه أنْ نرى من الفلسطينيين، في مُعْتَركيِّ «المفاوضات» و»السياسة»، نُسَخَاً من المقاومين بالحديد والنار!
غزة، التي بدت أكبر من الوطن العربي الكبير، فكانت كِتاباً مفتوحاً لإسرائيل، حَفِظَتْهُ عن ظهر قلب؛ فلَمَّا فَتَحَتْهُ، في 8 تموز (يوليو) المنصرم، وَجَدَت نفسها تقرأ كتاباً مختلفاً جديداً، بلغته ومحتواه؛ وها هي كلُّ خيارات نتنياهو تقود إلى النتيجة نفسها؛ فإذا تقدَّم (في حربه) سَقَط، وإذا تراجع سَقَط، وإذا بقي في مكانه سَقَط؛ وهذا إنَّما هو «المأزق»، واقِعاً وتعريفاً!
الحرب إذا غَدَت مرادِفاً للجريمة!
الحرب، على ما تجلبه على البشر من ويلات ومصائب وكوارث، ليست مرادِفاً لـ «الجريمة»، ويجب أنْ يَحْكمها قانون دولي يَرْدَع المتحاربين عن ارتكاب «جرائم الحرب»، ويَرْفَع، قدر الإمكان، منسوب ما يسمَّى «الحرب النَّظيفة» في كل حرب؛ وإذا كان «عِلْم الحرب» قد أَعْلَمَنا، وعَلَّمَنا، أنَّ الحرب لا يمكن فهمها إلاَّ على أنَّها امتداد للسياسة، الغاية منها هي «إكراه» الخصم على قبول ما أبى قبوله، من قَبْل، بـ «الدبلوماسية»، فإنَّ حكومة نتانياهو، ومن طريق حرب إسرائيل الثالثة على قطاع غزة، والمسمَّاة، إسرائيلياً، «الجرف الصامد»، قَوََّضَت هذه الصِّلة بين «الحرب» و»السياسة»، خائضَةً هذه الحرب بما يَجَعْل تمييزها من «الجريمة» من الاستعصاء بمكان، وبما يَجْعَلنا نَسْتَنْتِج أنَّ هذه الحكومة قد رَأَت في «الجريمة»، لا «الحرب»، امتداداً للسياسة؛ ولقد أَمْعَنَت آلة الحرب الإسرائيلية في تقتيل الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة؛ وظلَّ «المجتمع الدولي» صامتاً، متفرِّجاً، غير مُبالٍ، حتى حَقَّ لنا أنْ نقول: لقد جَعَلوا لقتل الأطفال دولةً وجيشاً! ماذا تقرؤون في كلِّ هذا الموت والدَّمار الذي نَشَرَتْه آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة؟ كيف تَفْهَمون وتُفَسِّرون هذا الاستهداف الحربي الإسرائيلي، للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وللأطفال منهم على وجه الخصوص، وللبيوت والمستشفيات والمنشآت المدنية الحيوية؟ الإجابة من كلمة واحدة لا غير هي «الفشل». وكان الفشل الإسرائيلي في هذه الحرب (والتي هي الحرب الكبرى الأولى بين إسرائيل والفلسطينيين) أَثْقَل من أنْ يَقْوى ظهر إسرائيل السياسي والعسكري (والاستراتيجي) على حَمْلِه؛ فَجُنَّ جنون الحكومة الإسرائيلية، وراح «الجيش الذي لا يُقْهَر» يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وكأنَّه لم يَدْخُل الحرب إلاَّ لارتكاب الجرائم في حقِّ المدنيين العُزل، وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها؛ حتى الملاجئ التي تتمتَّع بالحصانة الدولية (مدارس الأونروا) دَمَّرتها آلة الحرب الإسرائيلية.
وكان هذا الفشل كالوَهْم، مُعْمِياً للبصر والبصيرة؛ فحكومة نتنياهو استبدَّ بها الشعور بالفشل حتى توهَّمَت أنَّ الحجم الهائل للكارثة الإنسانية التي تَسَبَّبَت بها آلتها الحربية في قطاع غزة، والتي تَصْلُح تعريفاً لـ «جرائم الحرب»، ولـ «الجرائم في حقِّ الإنسانية»، ولـ «الانتهاك السافِر للقانون الدولي»، يمكن أنْ يكون كالضَّباب الكثيف، يَحْجِب رؤية فشل حربها عن الإسرائيليين؛ مع أنَّ هذه الكارثة الإنسانية، تُضاف، إذا ما نَظَرْنا إليها بـ «عَيْن السياسة»، إلى جُمْلَة الخسائر التي تكبَّدتها إسرائيل في حربها الثالثة على قطاع غزة.
لقد شَقَّ على نتانياهو ابتلاع هذا الفشل (العسكري والسياسي) الكبير، والتاريخي، فتَحَوَّل سريعاً من «رئيس حكومة» إلى «مجرم حرب»؛ لعلَّ هذا التَّحَوُّل، الذي يَضْرِب جذوره عميقاً في البُنْيَة السياسية والفكرية والثقافية لنتانياهو، يقيه شَرَّ السقوط السياسي.
نتانياهو أراد لهذه الكارثة الإنسانية أنْ تنال (ولو قليلاً) من الصلابة السياسية لائتلاف قوى المقاوَمة الفلسطينية في قطاع غزة، فَتُوْقِف القتال على نَحْوٍ يسمح له بـ «تزييف نَصْرٍ تزييفاً مُتْقَناً» يَصْعُب على الإسرائيليين تمييزه من «النَّصْر الحقيقي»؛ لكنَّ قوى المقاوَمة، وفي مقدَّمها حركة «حماس»، بجناحيها العسكري والسياسي، لم تُعْطِه إلاَّ عَكْس ما أراد، رافِضَةً معاملته كما يُعَامَل «عزيز قَوْمٍ قد ذَلَّ»؛ فماذا يَفْعَل؟
هل يأمر جيشه بالعودة إلى حيث كان قبل هذه الحرب، مُوقِفاً القتال وإطلاق النار من جانب واحد؟ كلاَّ؛ فهو ما عاد يملك حتى هذا الخيار؛ فقوى المقاوَمة يمكن أنْ تستمر في إطلاق النار والصواريخ، داعيةً الجيش الإسرائيلي إلى أنْ يحاوِل مرَّة أخرى القضاء على قوَّتها الصاروخية.