المراجعات العقلانية مقدمة لفهم واقعنا الراهن «2-2»

عبد الله بن علي العليان –

alaliyan@gmail.com –

طرح د/ محمد جابر الأنصاري، في العديد من مؤلفاته، أن العرب لم يخبروا الدولة المنظمة قبل الإسلام، وأنهم عاشوا قبائل متناثرة غير منتظمة في الصحارى والقفار، وأن السياسة عند العرب مثلت مقتلاً خطيراً للحضارة العربية الإسلامية منذ عصورها المبكرة، وأنها أي البنية السيوسيولوجية تعيد إنتاج أزمات ومكونات الحالة العربية ما قبل التاريخ وبعده، وأن ما يحدث في عصرنا الحالي ما هو إلا معضلة سياسية تعيدنا إلى الجذور التاريخية، وأن التكوين المجتمعي العربي ببناه القبلية المتعددة يمثل النقيض لبنية الدولة وثباتها ونموها المتدرج غير المنقطع.


الواقع أن ما طرحه الدكتور محمد جابر الأنصاري حول هذه الإشكالية السياسية لم يقتصر على مرحلة تاريخية معينة، وإنما ربط هذه المعضلة وأعراضها المزمنة – كما قال – إلى امتداد متصل لم ينقطع حتى الآن. ومن هنا يتوجب أن نتعرض للمسار السياسي العربي ولو بصورة مجملة في مرحلة ما قبل ظهور الإسلام، على الأقل لنبين ماذا كانت الحياة الاجتماعية والسياسية عندهم، فالعرب عرفوا في عصور سحيقة أنظمة سياسية عديدة، قد لا تتطابق مع النظم السياسية المعاصرة، لكنها بمقاييس تلك المرحلة تعد نظماً سياسية، وبمستويات مختلفة وبرصيد تاريخي عميق، ووفق تطور تلك المجتمعات وظروف النشأة وعوامل الاستقرار ومن هنا، فإن الدول في الجزيرة عرفت الاستقرار والازدهار وحققت تاريخاً مزدهراً تحدث عنه المؤرخون والباحثون مثل الدولة المعينية والدولة السبئية، والدولة الحميرية الأولى والثانية، كما اكتسبت الدول في شمال الجزيرة العربية أيضاً حضارة رائعة، لا تزال آثارها ونقوشها باقية مثل دولة الأنباط والغساسنة وتدمر وكندة وغيرها من الدول، وجذور هذه النظم – كما يقول إبراهيم الحاج – « تمتد بعيداً في التاريخ، لأن الجنوب قد عرف استقرار أهله وسكانه على أرض معطاة تشدهم إلى النبات، نتيجة عوامل مناخية وطبيعية، وكانت حصيلة هذا الاستقرار أسبقية مدنية تخطت معالمها سائر المناطق في الجزيرة، ونظماً سياسية ازدهرت وتقدمت تاريخياً على نظم الشمال والوسط ».

لكنها ظلت هذه الدول عبر مراحل التاريخ تخضع لعوامل عديدة في البقاء، أو الاختفاء لأسباب موضوعية وطبيعية واقتصادية وغيرها من العوامل كالحروب والهجمات، الخارجية والفيضانات وانهدام السدود الخ: وبقوة الإرادة وعوامل الحضارة الذاتية والرغبة عند العرب في التفاعل مع الحضارات الأخرى، وتحدي عزلة الصحراء فقد جعلوا شبه الجزيرة العربية «مركزاً عالمياً لتبادل التأثير والتأثر. وعبر هذا التحدي للواقع ومن خلال ذلك التفاعل تكونت لدى عرب الجنوب تغييرات عملت على تواجد نظم سياسية ساهمت بإرساء معالم مدنية أحرزت سبقاً على سائر المناطق. وكانت الأساس والمنطلق لدول ونظم سياسية قامت فيما بعد في المنطقة الشمالية من الجزيرة ووسطها».

وعاشت هذه المنطقة لفترات طويلة من الرخاء والازدهار، في جنوب الجزيرة العربية وشمالها وعرفت الاستقرار والتنظيم السياسي، بالشكل المعروف في كل الحضارات القديمة إلى جانب الصلات التجارية، وتعتبر تجارة «اللبان» مادة الكندر التي تشتهر بها محافظة ظفار بسلطنة عمان، الأكثر شهرة وأثراً على تطور هذه المنطقة وازدهارها، حيث أثار اللبان اهتمام المؤرخين الأوائل وكتبوا عن هذه السلعة الثمينة، بدءاً من المؤرخ اليوناني هيرودوت ثم بيليني وبطليموس وديودورس وسترابو وغيرهم.

، وكانت هناك صلات تجارية مع الحضارة السومرية والبابلية والأشورية في بلاد العراق القديم، وكذلك مع الحضارة الفرعونية، وقد أشارت أدلة أثرية كثيرة على وجود علاقة مزدهرة بين حضارات العراق القديم والفراعنة، مع حضارة عمان في فترة حكم الدولة الحميرية.

فالذي نود الإشارة إليه أن العرب في جنوب الجزيرة وشمالها، عرفوا الاستقرار والزراعة والتجارة، وخبروا السياسة من خلال الدول العديدة التي حكمت هذه المنطقة، بعضها بقي لمئات السنين أو يزيد. وانحلال هذه الحضارة وتفككها لا يعني أن العربي لا يعرف الاستقرار، وأنه يكره الثبات وسمات التحضر، فالذي يشاهد النقوش والآثار في أكثر بقاع الجزيرة العربية، يصاب بالدهشة والانبهار لهذا النموذج الرفيع من المعثورات الأثرية والكتابات واللوحات، لكنه في نفس الوقت يصاب بالاستغراب لكتابات بعض الباحثين عن هذه المنطقة، والظلم الكبير الذي يتعرض له سكانه قبل الإسلام وبعده، فهؤلاء – بعض الباحثين – لا يركزون في كتاباتهم إلا في فترة التغيرات والتقلبات المناخية، حيث أخذت البيئة في الجزيرة العربية، تتجه نحو التصحر والجفاف، ويكتبون عن هذه الظروف فقط، وعن الحالة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي سادت في ذلك العصر، ويعممونه على كل عصور العرب وحياتهم ليستنتجوا بعد ذلك النظريات ويستقرئوا الأحوال ويحللوا السلوك والسمات. وبالتالي تغيب معه الموضوعية، وتتراجع المنهجية، وتتحول إلى تصنيفات ظالمة.

فأغلب المؤلفات – كما يقول الباحث سالم يفوت – التي تتناول تاريخ الحضارة تعاني خللاً في المفاهيم، واستخدامها على عواهنها، فصفة «المتحضر» توزع هكذا انطلاقاً من مرجعية محددة في إطار من الحتمية التطورية البيولوجية والأخلاقية والسياسية.

فقد جاء في أحد تلك المؤلفات أن «الحضارة هي النور في مقابل الظلمة التي لا يزال البدائيون يعمهون فيها» ويذهب إلى ذات الرأي مؤلف آخر يعتبر «المعجزة اليونانية» فريدة من نوعها ومنقطعة النظير على سائر الدهور بل يبحث بعض المؤرخين، أحياناً عن أصل الحضارة، وعن مصدر انبثاقها، في المسيحية ذاتها، معتبرين غيابها في بعض البلاد سبباً لما تتردى فيه من جهالة. وسواء أكان هذا أو ذاك، فثمة ميل إلى اعتبار الحضارة نشأت في أوروبا، وأن ثمة حضارة واحدة جديرة بهذا الاسم، يعتبر الغرب وريثها الشرعي، إذ معه يبدأ العقل والنظام والمنهج، وهي جميعاً من سمات «المعجزة اليونانية» وما عرف من علوم ومعارف وأفكار في باقي الحضارات الشرقية القديمة، ليس من الممكن بحال وضعه في مصاف ما عرفته الحضارة اليونانية التي هي أصل الحضارة الغربية. بل إن سائر الحضارات الأخرى لم ترق حسب العديد من المؤلفين الغربيين، إلى مستوى ما بلغته الحضارة الغربية مع اليونان أو بعدهم.

وعلى الرغم من تشديد الدكتور الأنصاري على فكرة فقر العرب في التكوين السياسي والاستقرار الحضري، في أغلب أبحاثه وكتاباته، فإنه يناقض نفسه في بعض هذه الآراء التي ركز فيها على هذا الجانب السياسي السلبي، حيث يشير إلى الاكتشافات الأثرية في بعض مناطق الجزيرة العربية، وتأكد مدن وحضارات عريقة في التحضر. ففي كتابه (تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية)، يقول الدكتور الأنصاري «الواقع أن نشوء هذه المستوطنات الحضرية دليل على مدى الهد الحضاري الذي بذل في مواجهة تيارات التصحر والبدونة المحيطة بهذه الجزر الحضارية من جميع الجهات، الأمر الذي يؤكد أسبقية هذا الصراع والجدلية بين قوى الحضارة وقوى البداوة في هذه المنطقة، بشكل لم يسبق له مثيل في مناطق العالم الأخرى.

ومن هذه الرؤية الجدلية وحدها – كما يقول د/الأنصاري – نستطيع أن نتفهم التجاذب القائم بين نظريتي ((الأصل البدوي)) و((الأصل الحضري)) في تفسير التاريخ الثقافي والحضاري للعرب. فإلى ((وقت قريب كانت نظرية الأصل الصحراوي (أي البدونة) للغة العربية وثقافتها. بل تجاوزت هذه النظرية أصل اللغة إلى أصل القوم والأخلاق والقيم وجملة العقائد. واتخذ الدارسون هذه النظرية حجر زاوية في كل دراسة اجتماعية أو أدبية أو نفسية أو سياسية)).

ويقلل د.محمد جابر الأنصاري هنا نظرية الأصل الصحراوي التي اتخذها متكأً لتفسير حالة العرب في كل أبحاثه وكتاباته، التي صدرت بعد هذا الكتاب، وفي هذا الكتاب نفسه أيضاً. وتأكيده الأصل الصحراوي للعرب في تكوينهم السياسي، وفي خط متصل إلى الآن ويسميه أحياناً ((القاع السوسيولوجي)) وأحياناً أخرى ((مجمل الجذور السياسية – التاريخية)) الخ، وهو أن العرب لم يخبروا السياسة ولم يعرفوا الدولة المنتظمة قبل الإسلام، وعاشوا مأساة هذا ((الجذر)) و((القاع)) بعد الإسلام أيضاً، فيقول ((غير أن هذه النظرية لم تعد تفسر – وحدها – مجمل ظواهر التاريخ العربي. ((فمع الاطلاع على المصادر المدونة بالعربية الجنوبية والمصادر الأجنبية والتنقيبات الأثرية، بدأت نظرية الأصل الصحراوي بالتهاوي. وظهرت إلى الوجود جغرافية سكانية وطبيعية مختلفة عما هو شائع بتراث عربي مجهول، ذي طابع مدني لم يكن معروفاً. وظهرت دلائل وجود تجمعات كتابية وتجارية وصناعية في عهود مغرقة في القدم، على السواحل وعلى امتداد شبكة طرق تجارية أشهرها طريق العطور…)).

وهذا ما أكدته الكثير من الدراسات والبحوث التاريخية، حول الوجود العربي التاريخي قبل الإسلام بقرون، صحيح أنه العرب قبل قرن أو قرنين تراجعوا، لأسباب سياسية وعسكرية، لكن التاريخ يذكر أن ممالك كثيرة حصلت في الشام واليمن والعراق.