المساواة المفقودة في النظام الدولي

د. عبدالعاطي محمد –

عندما تتكرر الدعوة إلى الوحدة في الخطاب السياسي للزعماء الغربيين ضمن سياق البحث عن حلول لأزمات العالم المعاصرة، فإن ذلك يعني ضمنا أن الانقسام هو السمة الغالبة في العلاقات الدولية. لقد تراكمت الأزمات على مدى ربع قرن مضى منذ أن نشأت الدعوة إلى بناء نظام دولي جديد.


ومع الفشل المتواصل تأكد أن المساواة لم تعد المبدأ الذي يوجه المسار، بل التمييز الصارخ أو الافتقاد للعدالة إلى حد اتخاذ أشكال لا تبعد عن العنصرية. وبالنتيجة ليس غريبا أن يظل النظام الدولي مشلولا في مواجهة هذه الأزمات، إن لم يكن قد أصبح سببا في تعقيدها.في مؤتمر دافوس 2015 على سبيل المثال اختلط الحديث عن الاقتصاد الذي هو الشاغل الأكبر لهذا المنتدى منذ إنشائه عام 1971 بالحديث عن الدين والسياسة ، بما يعكس عمق التحديات التي يواجهها العالم أجمع دون تمييز بين أغنيائه وفقرائه. ومع أن فكرة المنتدى قد قامت على تجميع الجهود من أجل تحقيق سلام وأمن ورخاء للجميع، أي على المشاركة والمساواة دون تمييز، فإن النقاشات القديمة غالبا ما كانت تلقي بمسؤولية الأزمات الدولية على شعوب وحكومات الشرق الأوسط وتحديدا المنطقة العربية!، ولذلك كانت تطالبها دوما بالإصلاحات الجذرية في المجالين الاقتصادي والسياسي. هذه المرة اختلف الأمر كثيرا، حيث تجنب المشاركون الغربيون الأوضاع الداخلية في البلدان العربية ولم يرددوا نفس الخطاب القديم عن التحولات الديمقراطية. وبدلا من ذلك كان القاسم المشترك هو القلق الشديد من تراجع النمو الاقتصادي العالمي، وتدني أسعار النفط، والإرهاب. اختفت المواجهات القديمة حول اتهام الإسلام بكونه حاضنة للتطرف الذي يتحول إلى إرهاب، ومدى ديمقراطية نظم المنطقة، والدفاع عن أمن إسرائيل، وضرورة انصياع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية في عملية السلام. وبالمقابل ظهرت حالة من الرغبة في التقارب والعمل المشترك بعيدا عن الاتهامات القديمة في مسألة مكافحة الإرهاب، وشعور بعدم اليقين فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية الساخنة مثل معدل النمو والطاقة والبيئة والموارد البشرية.. إلخ.

كلمات ومداخلات المنتدى عكست المشهد المرتبك للوضع الدولي المعاصر أكثر ، مما كانت تعبيرا عن استفاقة ونزعة جديدة تتعامل مع هذه الأزمات بجدية بما يعطى الأمل في تجاوز هذا المشهد كلية. فمن ناحية أكدت خطأ الحسابات القديمة التي ظل الغرب يصر عليها لنحو ربع قرن، ومن ناحية أخرى دعت إلى الوحدة بينما العلاقات الدولية في أسوأ حالاتها إلى الحد الذي يصعب فيه تفعيل أي دعوة إلى الوحدة. وفي الوضعين يبدو الشلل واضحا كمظهر عام. والتفسير الأرجح لمثل هذا الشلل يكمن في «النزعة العنصرية» التي نمت تدريجيا إلى حد الهيمنة وسيطرت على مواقف القوى الكبرى المتحكمة في مسار العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ويقصد بالنزعة العنصرية تضخيم الذات الوطنية والتفوق على الآخر إلى حد إقصائه. لا يعكس المفهوم الانحياز إلى جنس بعينه كما يفهم عموما من كلمة العنصرية، وإنما يشير إلى صراع الوطنيات للتفوق المطلق على بعضها البعض.

وبالطبع يمتد المفهوم ليشمل الانحياز لجنس بعينه هو قوام هذه الوطنية أو تلك. لقد دعت العولمة إلى تجاوز الوطنيات من خلال انفتاح العالم بلا حدود على تجارب بعضه البعض وإقامة سوق واحدة ، والتخلي تماما عن كل ما يمت للهوية الوطنية المتوارث لصالح الانتماء لعالم واحد وحضارة مادية واحدة (كتاب توماس فريدمان، السيارة ليكزيس وشجرة الزيتون). ولكن ما حدث هو أن العولمة قادت إلى ظهور الوطنية المتوحشة التي أخذت شكلين أحدهما يقوم على التقوقع حول الذات درءا لخطر التهميش والزوال، والثاني يقوم على التفوق المطلق على الآخر. لقد أرادت العولمة تعزيز المساواة بين الشعوب، ولكنها عمليا أدت إلى إلغاء المساواة وتعميق الانقسام وغياب العدالة، وكرد فعل ظهرت الوطنيات المتوحشة. ومما جعل الأمور تزداد تفاقما ظهور الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت المواجهات بين الشعوب أكثر يسرا من قبل، فقد فتحت بابا سهلا للحروب الفكرية والسياسية والاقتصادية، على عكس ما كان منتظرا منها حسبما روج مبدعوها.من الطبيعي في ظل الوطنيات المتوحشة والساحة المفتوحة للحروب الكلامية عبر شبكات التواصل الاجتماعي أن تنشأ الكراهية بين الشعوب وأن تأخذ صورا مختلفة ما بين ما هو ثقافي وسياسي واقتصادي، بل وعسكري، تنهار القيم السامية التي تحدث عنها إعلان حقوق الإنسان عام 1948 ومن قبل ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 فتصبح القوة هي العامل الحاسم في الخلافات والإقصاء هو مبدأ التعامل. ولا معنى أو قيمة في هذه الحالة للتفاوض والحل الوسط للأزمات، بل العكس هو الحادث تماما.

وليس من المنتظر أن يأتي العون لمنطقتنا العربية من نظام دولي تخلى عن مبدئه الأصيل وهو المساواة، وارتضى لنفسه أن يخضع لشروط الوطنيات المتوحشة. هذه الوطنيات تعيشها الشعوب والنظم الغربية أكثر مما هي قائمة في غيرها، وحيث تعد هذه النظم الطرف الأهم في النظام الدولي ومن ثم في واحدة من أبرز تجلياته هي الأمم المتحدة، فلا يمكن انتظار مساهمة إيجابية أو حقيقية من جانبها في حل أزماتنا المعاصرة. لم تكن المنطقة العربية مسؤولة عن تراجع النمو الاقتصادي العالمي إلى الحد المخيف الذي يتحدث عنه صندوق النقد الدولي (في مؤتمر دافوس قلل مسؤولو الصندوق من تقديراتهم المعلنة قبل عدة أشهر للنمو في 2015، وذلك بـ 5.% ليصل إلى نحو 3%). المسؤولية تتجه أساسا إلى الدول الصناعية الكبرى التي تنافست فيما بينها بشدة من منطلق البحث عن التفوق المطلق ودعما لتوجه الوطنية المتوحشة. ولم تكن مسؤولة عن الهبوط الحاد في أسعار النفط. صحيح هي تضم عددا من كبار المنتجين في أوبك، ولكن إصرار أوبك على الاستمرار في الإنتاج بنفس المعدلات دون خفضها يعود لحرصها على الاحتفاظ بحصتها في السوق العالمي في مواجهة المنتجين الصغار والنفط الصخري، فضلا عن كونها مشكلة متعددة الجوانب وتتطلب تفاهمات بين الجميع منتجين ومستهلكين، وهي تفاهمات مفقودة، وعندما تتحقق تنفرج الأزمة. ومن الصحيح أن الإرهاب له مصادره في المنطقة العربية، ولكن الغرب لا يريد أن يقف عند أسبابه ومن ثم يتعاون في القضاء عليها فيزول الخطر. عندما تحدث جون كيري وزير الخارجية الأمريكي في دافوس رفض وجهة النظر التي تقول بضرورة الوقوف عند الأسباب وشدد على أنه لا يتعين تبرير الإرهاب مشيرا إلى أنه يعود أساسا إلى تفسير خاطئ للإسلام. ومع أن كلامه صحيح إلى حد كبير، إلا أنه يعكس رغبة أمريكية في إبعاد أية مسؤولية عن الولايات المتحدة في انتشار الظاهرة مع أن سياساتها الخاطئة في المنطقة كانت ولا تزال سببا أساسيا في اندلاع موجات الإرهاب الواحدة بعد الأخرى.

الشلل الذي أصاب النظام الدولي نتيجة تخليه عن مبدأ المساواة جعل دور المجتمع الدولي فيما يتعلق بالمساهمة في حل أزمات المنطقة يأتي دائما في الوقت الخطأ وإن جاء في الوقت المناسب يأتي بطريقة خاطئة.

كانت الأزمة السورية مهيأة في البداية لدور مؤثر ينقذ الثورة وانتظر الجميع هذا الدور ، ولكنه تردد ولم يتدخل لأن الولايات المتحدة لم تكن تريد ذلك حتى لا تصطدم بإيران وروسيا حليفتا النظام السوري. وعندما ظهر أن التنظيمات المتطرفة المسلحة باتت تسيطر على الموقف وتطرح نفسها بديلا تحركت واشنطن بدعم دولي ، وتدخلت ولكن بعد أن تعقد المشهد كثيرا وبات الحل السياسي صعبا، هنا الخطأ في التوقيت.

ومن جهة أخرى عندما تدخل المجتمع الدولي في ليبيا كان التوقيت مناسبا ولكن الطريقة جاءت خاطئة ، حيث لم يقم المجتمع الدولي بدوره الصحيح في عملية نقل السلطة فباتت ليبيا في وضع بالغ السوء. وعندما باشر المجتمع الدولي دورا ملحوظا في الأزمة اليمنية استبشر الجميع خيرا خصوصا أنه كان من خلال الأمم المتحدة ، وليس عبر تفويض للولايات المتحدة أو التحالف الدولي الذي تقوده، ولكن الغريب هو التساهل من جانب المنظمة الدولية في تفعيل ما تم الاتفاق عليه ورعته الدول العشر وما صدر من مجلس الأمن من قرارات كانت بهدف إجبار الفرقاء على تنفيذ التسويات السياسية.

يحتاج قادة النظام الدولي إلى مراجعة لمساره الراهن إنقاذا للإنسانية ككل وليس لشعوبنا العربية، مراجعة تستعيد مبدأ المساواة فيعود لهذا النظام دوره الحقيقي في استتباب الأمن والسلام والرخاء لدول العالم جميعها، وتتخلى عن الخضوع لهيمنة التوجهات الوطنية المتوحشة. آنذاك يسهم المجتمع الدولي حقا في حل أزمات المنطقة العربية.