التراجع الثقافي أفسح المجال للإرهاب

د. عبدالعاطي محمد –

من الخطأ الفصل بين ما حدث من تحولات في الأوضاع الثقافية العربية وبين صعود التطرف إلى حد ممارسة الإرهاب. فالثقافة بوصفها أنماطا للسلوك لا تنفصل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة، حيث تسعى النظم السياسية إلى إحداث تغيرات في الثقافة السائدة عن طريق التأثير في أنماط السلوك في المجتمع، بينما يفرز المجتمع ثقافات مضادة تعبر عن جماعات تشعر بالاغتراب عن هذه الثقافة فتعاديها، مما يفجر العنف الذي يصل إلى حد الثورة أو الحرب الأهلية. ولأسباب فكرية وسياسية واجتماعية عاشت المنطقة العربية، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، اضطرابا في الساحة الثقافية قاد إلى ما تعانيه اليوم من تطرف وإرهاب.


في التدليل على أن كل ما يتعلق بالثقافة قد تراجع من حيث تأثيره على الشأن العام، وتحديدا فيما يتعلق بمحدودية دوره في تصويب المسار السياسي تكفي الإشارة إلى بعض المؤشرات التي لا تغفلها عين المراقب البسيط وليس المتخصص. فلم يكن هناك دور ملحوظ لرموز الفكر والمثقفين عموما في الموجات الثورية التي ضربت أكثر من بلد عربي منذ أربع سنوات وإلى الآن. من تقدم المشهد فصيل آخر هم الشباب العاديون للغاية الذين لم يكن مطلوبا منهم سوى القدرة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعى وليس التحصيل الفكري أو الثقافي العميق. ولم يسجل فيما سبق تلك الأحداث الجسيمة أن تزعم مفكر أو كاتب مشهور أو مثقف بارز حملة متواصلة تدعو إلى التغيير الجذري والسريع. وللحق فإن نفرا قليلا جدا من هؤلاء هم من كشفوا صراحة عن دورهم كمعارضة لا لبس فيها لهذه النظم.. كانت هناك استثناءات بكل تأكيد ولكنها كانت بمثابة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وإذا وسعنا المجال بعض الشيء، فما لا ينكره أحد أن حجم الترجمة عن لغات العالم الأخرى إلى العربية كان محدودا وكذلك حجم الترجمة عن العربية الى اللغات الأخرى كان محدودا، هذا بالقياس إلى تجارب شعوب أخرى. والترجمة عن الآخر تعد مقياسا على مدى الانفتاح على العالم والاستفادة منه، بينما الترجمة عن العربية تعد مقياسا عما أصبح يسمى بالقوة الناعمة أي القدرة على التأثير في الآخرين دون استخدام القوة العسكرية أو المساعدات المالية، أو بالأحرى مدى الجاذبية التي يحظى بها شعب أو دولة ما لدى الشعوب والدول الأخرى. والقصد أن القوة الناعمة العربية كانت ولا تزال غائبة. ومع أن هناك تقدما في محو الأمية (كانت نسبة الأمية 73% عام 1970وأصبحت حوالي 30% عام 2013) لا نبتعد عن الحقيقة عندما نقرر أن الأمية الثقافية لا تزال مرتفعة.

قبل تصنيف التحولات الثقافية التي قادت في نهاية المطاف إلى ما يعانيه عالمنا العربي من تطرف وإرهاب، يتعين التمييز بين أربعة أمور كثيرا ما تختلط مع بعضها البعض وكثيرا ما تسبب إرباكا في رصد الحالة الثقافية وبيان تداعياتها وأسبابها. الأمر الأول يتعلق بمفهوم التطرف، فقد ذاع بما جعله يصبح من المسلمات على غير الحقيقة، أن التطرف هو الغلو الديني، بينما التطرف بالمصطلح يعني أتى الطرف أو جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط. ولذلك هو يشير لكل من يتخذ موقفا في أقصى اليمين أو اليسار وليس الوسط، ومن ثم ينطبق على كل اتجاه سياسي مثلا ولا يخص موقفا أو جهة وحدها دون غيرها، فلماذا ينسحب على ذوي التوجهات الدينية وحدهم مع أنه يصدق أي اتجاه سياسي غير معتدل؟!. والأمر الثاني هو أنه ثبت بالتجربة والملاحظة الدقيقة أن الإرهاب المرتبط بالتطرف الديني ليس بالضرورة نابعا من مشكلات سياسية أو اقتصادية كما ساد الاعتقاد منذ أن اهتم الخبراء والباحثون بقضايا جماعات الإسلام السياسي المختلفة، فهناك الكثيرون من المنتمين لهذه الجماعات خصوصا المتشدد منها جاءوا من طبقات اجتماعية ميسورة، وكثير من هذه الجماعات لم يلق عنتا أو ظلما من الحكومات التي يناهضونها، بل ظهروا إلى الوجود لأسباب فكرية بالأساس أي نتيجة إيمانهم الشديد بتصور بعينه للعقيدة. والأمر الثالث أن ما يسببه الإرهاب المرتبط بالتطرف من مشكلات ليس جديدا على المنطقة بل قد كان هناك مثله وإن كان بشكل مختلف في أقوى عصور الدول الوطنية التي تعرضت له، وآنذاك لم تكن له تداعيات مثلما الحال اليوم، بما يعني أن المشكلة ليست في وجوده لأنه موجود منذ زمن طويل، وإنما في القدرة على مواجهته، ليس فقط من الدول الوطنية وإنما من عموم المثقفين الذي يختلفون مع توجهاته. وأما الأمر الرابع فيتعلق بالتوجهات وليس الأدوات. فقد يذهب الكثيرون إلى أن المشكلة الراهنة تتعلق بعجز مؤسسات الفكر والثقافة بدءا من المدرسة إلى النخب والرموز الثقافية ومرورا بالمنتديات والجمعيات الثقافية، ولكن المشكلة تكمن أساسا في التوجهات الثقافية المميزة للمجتمع في هذا العصر أو ذاك.

التحول الأول يمكن صياغته في انتقال التوجه الثقافي العام من التنوير والنقد إلى الجمود والنقل. فمن يعود إلى حقب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي يلمس حضورا قويا لتيار ثقافي عام مؤداه العمل على إذكاء شعلة التنوير بين العامة، حيث الشجاعة في رفض كل ما لا يقبله العقل السليم ولا يتفق مع ما خلصت إليه التجربة الإنسانية في العالم كله من أفكار وقيم تدفع إلى تفجير القدرات الذاتية للمواطن وترتقي بوضعه كإنسان، وتزامن مع ذلك العمل على نقد الواقع وليس التسليم به أيا كان مستواه، ومع نقد الواقع تتولد أفكار جديدة لتحسين مستوى الحياة. المهم في ذلك أن التنوير والنقد لم يكن حكرا على أصحاب الفكر الليبرالي أو اليساري وإنما امتد ليشمل الإسلاميين أي المهتمين بتفعيل دور الإسلام في مختلف جوانب الحياة بما في ذلك السياسة. آنذاك كان هناك متطرفون إسلاميون ويساريون وعلمانيون وكان هناك عنف محدود من الإسلاميين واليساريين ولكنه لم يرق ليوصف بالإرهاب. ورغم ذلك لم ينتشر بين العامة، لا التطرف ولا الإرهاب، لأن التيار الثقافي الأعم كان تنويريا ونقديا. لم ينحصر تأثير هذا التيار في نطاق النخبة فحسب، بل وصل إلى الجماهير، أي خلق لنفسه حاضنة وقاعدة اجتماعية. تمكن من ذلك بالتواصل مع المدارس والجامعات والحضور في المنتديات واللقاءات الشعبية. اليوم توارى هذا التيار شيئا فشيئا إلى أن غاب صوته ومن ثم تأثيره، إما بسبب غياب رموزه وعدم ظهور البديل، وإما بسبب الملاحقات الأمنية، فكان منطقيا تصاعد قوى التطرف والإرهاب التي ملأت الفراغ الذي سببه تراجع هذا التيار. تأثير هذا الصعود لم يقتصر على الفاعلين المباشرين من أعضاء جماعات التطرف، وإنما امتد ليشمل المتعاطفين والأتباع، وهؤلاء من أبرز علامات التحول فى الثقافة القائمة.

وأما التحول الثاني فيتعلق بتراجع الثقافة الراقية أمام الثقافة العامة. الأولى تتطلب الحصول على قدر عال من التعليم حتى يمكن تذوقها لأنها تهتم بالقيم والأخلاق المثلى وتفترض التزاما ودورا كفاحيا من جانب من يؤمن بها. وهذه الثقافة من مهام الدول الحديثة التي تنفق عليها كثيرا وتقيم المؤسسات التى تدعو إليها بين العامة حتى لا تضمحل. أما الثقافة العامة فإنها لا تتطلب أكثر من كون الفرد عضوا في المجتمع، وليس بالضرورة راقيا من حيث التعليم. هذه الثقافة العامة يستقيها الفرد من وسائل الإعلام والترفيه وفقا لإمكانياته المتواضعة، وهي غالبا ثقافة متلقية لا مشاركة ولا نقدية، وليس لها رسالة في تطوير المجتمع. الحاضنة الاجتماعية للثقافة العامة تربة خصبة لنمو التطرف والإرهاب لأنها تسمع وتطيع، ولا تناقش أو تنتقد، وهو ما يحتاجه المتطرفون. وقد تراجع دور دول كثيرة فى هذا المجال مما أتاح الفرص أمام قوى التطرف والإرهاب لتجنيد أكبر قطاع ممكن من ذوى الثقافة العامة.

والتحول الثالث هو الانتقال من الثقافة القومية إلى المتعدية للقومية، ويقصد بالثانية نشر ثقافة معينة لا تلتزم بنطاقها الجغرافي والبشري المحددين وإنما تخاطب أجناسا مختلفة من البشر وفي كل بقاع الأرض، وحتى تنتشر تعمل على تحطيم الثقافة القومية قبل أي شيء أخر. من يبتدع هذه الثقافة هم المتطرفون في ثوبهم الجديد مستندين إلى تفسير خاطئ ومنحرف للإسلام. وربما ساعدت أدوات التواصل الاجتماعي على ذلك ولكن المضمون شكل تحولا خطيرا فى المنطقة العربية لأنه يركز على المتعاطفين والأتباع من كل الأجناس ويطرح نفسه بديلا عن الثقافات الأم. وهكذا فإن مواجهة التطرف المرتبط بالإرهاب تبدأ بإحياء ثقافة التنوير والنقد، وتعزيز دور الدولة الوطنية في نشر الثقافة الراقية، والتصدى للثقافة متعدية القومية القائمة على التفسير المنحرف للإسلام.