العزب الطيب الطاهر –
elazab1@gmail.com –
عكست استضافة السلطنة يومي الحادي عشر والثاني عشر من يناير الجاري ، للمؤتمر الأول لتوطين صناعات السكك الحديدية والمترو في دول مجلس التعاون الخليجي، والذي نظمته وزارة النقل والاتصالات بالتعاون مع الأمانة العامة للمجلس تطورا نوعيا في التعاطي مع مشروع الربط البري بين دول المجلس بالسكك الحديدية،
وهو المشروع الحلم الذي دخل بالفعل مرحلة التنفيذ داخل أغلب الدول التي أنشأت هيئات ومؤسسات مسؤولة ضمن أجهزتها الحكومية، وبعضها حقق تقدما كبيرا في انتظار القرار السياسي من قادة المنظومة، لتحقيق الربط عمليا وهو ما سيكون له واحد من أهم التأثيرات الإيجابية، التي ستدفع المنظومة الخليجية باتجاه مرحلة مغايرة تماما لما كان سائدا على مدى السنوات الأربع والثلاثين المنصرمة، هي عمر المجلس منذ انطلاقته في مدنية أبو ظبي في الخامس والعشرين من مايو عام 1981، عنوانها التكامل الحقيقي والتفاعل المباشر بين مكونات دول المنطقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية، الأمر الذي من شأنه أن يشكل الأرضية الصلبة التي بوسع الاتحاد الخليجي أن ينطلق منها ، عندما تنتهي اللجنة المشكلة من دراسته.والمتابع لتاريخ إنشاء السكك الحديدية وغيرها من وسائل المواصلات والنقل التي تتسم بالقدرة على استيعاب المسافات الجغرافية الشاسعة، فضلا عن السرعة في الحركة والانتقال لمن يمتطيها، سيرصد دورا بالغ الأهمية لها، على صعيد الترابط السياسي والجغرافي بين مكونات العديد من الإمبراطوريات الحديثة ، والتي انتهى معظمها ولكن آثارها ما زالت باقية متجلية ، فيما تركته السكك الحديدية من منجزات نجحت في التقريب بين المكونات البشرية والتنموية لهذه الإمبراطوريات ، وكان ذلك واضحا في بناء الأمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وفق التعبير الدارج وهي الأمبراطورية البريطانية، والتي كان لها قصب السبق في إطلاق شبكة واسعة من السكك الحديدية ، امتدت الى معظم مستعمراتها مما جعلها تمتلك ميزات نسبية عن القوى الاستعمارية الأخرى، في ذلك الزمان البعيد، وهو ما جعلها تقتدي بها وتتجه الى استخدام السكك الحديدية في الربط بين ولاياتها وأقاليمها ومستعمراتها خارج الحدود، سواء بالنسبة لفرنسا أو روسيا القيصرية أو الولايات المتحدة ثم الدولة العثمانية، والتي أطلقت – في زمن السلطان عبد الحميد الثاني – خط سكك حديد الحجاز في عام 1900، ليربط الحجاز بالشام بهدف معلن كان يتمثل في خدمة حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا يعانون الكثير خلال لرحلتهم لقضاء فريضة الحج ، بينما كان الهدف الحقيقي يرمي الى خدمة المشروع حركة الجامعة الاسلامية وهي حركة ظهرت في القرن التاسع عشر واستهدفت توحيد المسلمين في دولة كبرى ويعتبر «جمال الدين الأفغاني « أبرز الداعين إليها ورعاها السلطان عبد الحميد الثاني .وذلك في إطار هدف أسمى تجلى في ربط أجزاء الدولة العثمانية المترامية الأطراف وتوحيد قواها وليحكم سيطرته على مقاليد ومرافق الدولة ، وقد بدأ هذا الخط من دمشق ووصل عمان في عام 1902 وفي عام 1908 وصل أول قطار إلى المدينة المنورة
، ويعتبر السلطان عبد الحميد الثاني أول من أدخل السكك الحديدية، في «القطر العربي «من الدولة العثمانية المترامية الأطراف، حيث أنشئ في عهده الخط الحديدي من يافا إلى القدس سنة 1888 أول الخطوط الحديدية في الشام، وكان يخدم الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا وبلغ طوله 87 كم، كذلك تم إنشاء خط حديدي بين دمشق وبيروت بطول 147 كم، كان يقطعها القطار في ست ساعات.
في ضوء هذا المعطى التاريخي يمكن للمراقب أن يتنبأ بالأهمية السياسية القصوى لمشروعات السكك الحديدية والمترو التي باتت منتشرة في دول منظومة مجلس التعاون سعيا باتجاه توطينها وتأسيس صناعة حقيقية لها وهو الأمر الذي تقدر استثماراته بنحو 250 مليار دولار خلال العشر سنوات المقبلة، والتي سيتم إنفاقها من أجل تنفيذ ما يقارب عشرة آلاف كيلومتر من السكك الحديد والمترو بدول المجلس، وفقا لما أعلنه الدكتور عبد اللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، في مداخلته أمام مؤتمر مسقط الأسبوع الفائت، ويمكن رصد أهم تجليات هذه الأهمية فيما يلى:
أولا: توفير قدرات هائلة لانتقال البشر والمنتجات والسلع ، وبكميات أكبر مما تقوم به وسائل النقل الأخرى، على الرغم من وتيرتها الأسرع من السكك الحديدية وذلك يعني المزيد من الترابط بين دول المجلس، على نحو يدفع دفعا لتقوية استراتيجياتها التوحيدية على المستوى السياسي، مما يمكن أن يشكل في حد ذاته قفزة نوعية باتجاه الانتقال الى مرحلة أعلى من التكامل الخليجي الذي تحلم به شعوب المنطقة .
ثانيا:بوسع الربط القائم بين دول منظومة مجلس التعاون بالسكك الحديدية أن يشكل مقوما شديد الأهمية فيما يتعلق بتطبيق استراتيجية الدفاع والأمن صحيح أن الوسائط البرية والجوية والبحرية مناط بها أدوار مهمة في هذا الشأن، بيد أن وجود هذه الشبكة من شأنه، أن يجعل هذه الاستراتيجية أكثر قابلية للتطبيق السريع بالذات فيما يتعلق بنقل المعدات والعتاد العسكري الثقيل وآلاف الجنود عند الحاجة اليها في أي بقعة في المنطقة ، مثلما حدث مرارا في تاريخ الكيانات والدول الكبرى ذات المساحات الشاسعة، ولاشك أن المساحة الجغرافية التي تتمتع بها دول مجلس التعاون تجعل هذه الشبكة من الأهمية بمكان لأي استراتيجية دفاعية، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل، كما أنه بإمكان هذه الشبكة أن تعزز قدرات الأجهزة الأمنية المعنية في محاربة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة بل وتوفير قدارات استباقية في إجهاض عملياتها من خلال توفير إمكانية الحركة عبر أفق جغرافي ممتد ويتيح المناورة بشكل أكثر اتساعا من الوسائط الأخرى خاصة في حال استخدام تقنية القطار السريع مثلما هو الحال في أوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة.
ثالثا: من المأمول أن تعمق ما يمكن بالتواصل الشعبي المكثف بين دول منظومة مجلس التعاون والتي لايمكن أن توفرها وسائل النقل الجوي أو البري أو حتى البحري إن وجدت فشبكة السكك الحديدية قادرة على استيعاب نقل آلاف البشر من بقعة خليجية الى أخرى فضلا عن تجاوز صعوبات الانتقال التي لا يكون بمقدور الوسائط الأخرى أن تتجاوزها وأهمية هذا التواصل تكمن في أنه يعطي مصداقية للمقولة التي تؤكد عليها الأدبيات السياسية لمنظومة مجلس وتتمثل في قدرته على ملامسة متطلبات واحتياجات المواطن الخليجي والأهم من ذلك فإنها ستجسد بعمق عبارة مدهشة للأمين العام السابق عبد الرحمن بن حمدالعطية وهي أن «مجلس التعاون ولد ليبقى «
وأود أن ألفت في هذا الصد الى أن أنموذج إحياء خط السكة الحديد الذي يربط بين شطري شبه الجزيرة الكورية لعب دورا رئيسيا في إعادة التواصل الشعبي بين البلدين، كما يساعد في إخراج كوريا الشمالية من عزلتها، نظرًا لعدم قدرة غالبية الكوريين الشماليين على السفر جوًّا ، وقد تكون السكة الحديدية أهم من كل الوسائل والجهود الساعية نحو التقارب بين الكوريتين إعلاميًّا وسياسيًّا.