نشأة الإرهاب المعاصر.. الفكر والسياسات

عاطف الغمري – نائب رئيس تحرير الاهرام –

تتجسد أمامنا اليوم أبشع صور، إشعال الصراعات الداخلية في المجتمعات العربية، وتفشي وباء الإرهاب، ومخططات تغيير الأنظمة، وسط أجواء الفوضى التدميرية، وكلها تمثل ذروة إعداد وتجهيز، كان قد بدأ في صورة أفكار، ثم تجسدت في خطط أطلق لها العنان، لتوضع موضع التنفيذ.

ولأن كل هذه الأفكار، وما لحق بها من خطط تنفيذية، قد خرجت من نبع واحد تقريبا، فنحن لن نذهب بعيدا، إذا توقفنا أمام ما يقوله واحد من أبرز أركان مجموعة الصقور، الذين دفعوا إلى بلادنا بهذه الأفكار، استنادا إلى أقواله ومؤلفاته، والتى كشف فيها صراحة عن نقطة البداية فى تلك السياسات الهجومية على دولنا العربية.

ذلك مايكل لادين، العضو البارز في معهد أمريكان إنتر برايز للبحوث السياسية في واشنطن، والذي يصفه زملاؤه بأنه من أهم المنظرين لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكية في عهد جورج بوش. ومن بين المؤلفات التي طرح فيها أفكاره كتابه الصادر عام 1999، بعنوان «خيانة الحرية»، وغيره.

وإذا كان دوره قد تعاظم في عهد بوش، عندما كان أركان حكمه خاصة في البيت الأبيض، ووزارة الدفاع، يتخذون من لادين مصدر إلهام للقرارات السياسية الكبرى، في الشرق الأوسط على وجه الخصوص. إلا أن تأثير لادين لم ينقطع في عهد أوباما، بعد أن أقر كثير من الخبراء الأمريكيين بأن أوباما، تبنى عددا من أفكار وسياسات سلفه بوش، خاصة فيما يتعلق بجماعات الإرهاب، مع استمرارية العلاقات مع بعض هذه التنظيمات وخصوصا الإخوان المسلمين.

ولادين مثله مثل زملائه المتحيزين فكرا، وعقيدة للصهيونية العالمية، مثل ريتشارد بيرل، ودوجلاس فايث، وبول وولفوتيز، واليوت ابرامز، وغيرهم، يوصفون بأنهم يقفون عند نقطة تفصلهم فيها مسافة كبيرة عن تقاليد الحرب العادلة. وهي التي يراعى فيها القواعد الإنسانية. وإنهم من دعاة عسكرة السياسة الخارجية. وهو الوصف الذي أطلق على السياسة الخارجية الهجومية، التي لا تعرف لحركتها حدودا، عندما أعطت نفسها حق التدخل في شؤون الدول الأخرى.

وفي مقال كتبه لادين بعنوان التدمير الخلاق Creative destruction، فهو يصف هذا المعنى بقوله «نحن نفعله تلقائيا». وأن الوقت قد حان لنقوم بتصدير الثورة الديمقراطية.

وكان التدمير الخلاق هو الاسم الذي استخدم في البداية، لهدم المجتمعات العربية من الداخل، وإعادة تشكيلها بالصورة التي يرونها تخدم مصالحهم. ونظرا لما كان يتركه هذا الاسم من دلالات صريحة على النوايا العدوانية لهذه السياسة، فقد غير لادين الاسم إلى الفوضى الخلاقة. وهو الاسم الذي شاع بعد ذلك، ونسب خطأ إلى كوندوليزا رايس، فهي نطقت به، لكنها ليست صاحبته.

ويتحدث لادين عن التغيير، فيقول إن التغيير العنيف هو جوهر التاريخ الإنساني. وإن على الولايات المتحدة أن تتصرف على هذا الأساس.

وكما سبق أن شرح الكاتب الأمريكي ويليام بريمان، فإن لادين يعتقد أن نشر الديمقراطية باستخدام العنف، هو مصلحة مصيرية أمريكية. ويقول بريمان أن لادين كان في مقدمة دعاة تنفيذ أمريكا لحرب شاملة Total var في الشرق الأوسط. فهو الذي كتب يقول أن الحرب الشاملة تجعل مجتمعات العدو تصل إلى نقطة، تقرر فيها قبول تغيير توجهاتها الثقافية قسرا، حسب إرادة شعب آخر.

وهذا هو المعنى الذي قصدوه بالتغيير من الداخل، الذي لا يقتصر فقط على السياسة والاقتصاد، بل أيضا التقاليد والهوية الثقافية للمجتمعات العربية.

إن هذه الأفكار – كما هو واضح – هي التي تتبناها الولايات المتحدة، منذ إطلاق الفوضى الهدامة ابتداء من عام 2011. وكانت أجهزة مخابراتها هي التي اعترفت تقاريرها عام 2004، بأن الفوضى هي البيئة المثالية لتكاثر وانتشار منظمات الإرهاب، وذلك عقب رصدها لزيادة حجم الإرهاب في العراق، بمقدار ثلاث مرات في سنة واحدة، في جو الفوضى الذي ساد العراق بعد الحرب عام 2003.

كما سجلت تقارير منشورة في الولايات المتحدة، المسؤولين بوزارة الخارجية، في أعقاب حرب العراق عام 2003، إن أمريكا كانت لديها استراتيجية تفصيلية، لتدمير نظام صدام حسين، لكن جهودها عقب الحرب لم تظهر وجود إستراتيجية مماثلة، لقيام نظام ديمقراطي في العراق. لقد كانت نظريات مايكل لادين ملهمة لإدارة بوش، بالنسبة لتدمير نظام صدام، لكنها لم تتضمن ما يلي الهدم، من تصورات لإعادة بناء دولة ديمقراطية، لأن أمريكا قادت حربا هدفها الأول التدمير الخلاق.

ومن المفارقات اللافتة للتأمل والعجب، أن منظمات الإرهاب، تتصرف وكأنها تطبق نفس النظريات والأفكار، في إشعال الفوضى الهادمة، مثلما قال أحد المتحدثين باسم تنظيم داعش، «نحن نهدم أولا وبعد ذلك نعيد البناء». وأيضا تبني هذه المنظمات هدف تغيير التقاليد، والهوية الثقافية للمجتمعات، والتغيير بالعنف.

والغريب أن الأمر لم يقتصر لدى منظمات الإرهاب، مهما اختلفت أسماؤها، على عدم قراءة التاريخ وتجاربه، التي أثبتت أن مثل هذه المنظمات تظهر في ظرف زمني معين، مثل هبات رياح، أو حتى عواصف. لكن طاقتها سرعان ما تخمد وتزول ريحها. بل إن المنظمات الإرهابية عامة، قد وضعت نفسها خارج حركة التاريخ فالعالم يتغير ويتطور، بأسرع إيقاع في تاريخ البشرية، ويتداخل في بعضه، ولم تعد دولة بمفردها، تستطيع أن تنعزل عن المجتمع الدولي، الذي لا تستغنى دوله عن بعضها من أجل التقدم والبقاء. وحيث تواجه كل دولة، تغيرات جديدة ومتغيرة حسب العصر، لأمنها القومى، لا يمكن لدولة منفردة، أن تتصدى لها دون مشاركة الآخرين، بينما هذه الجماعات الإرهابية، جعلت من المجتمع الدولي بأكمله عدوا لها، وعزلت نفسها داخل سرداب تفكيرها الضيق، الذي لا يمكن أن ينتهي بها، وهى داخله، إلا بنفاد طاقتها، وضمور مقومات بقائها على قيد الحياة. فالله سبحانه وتعالى خلق البشر على اختلافهم، لتعمير الأرض، وليس لهدمها، وتخريبها، وسفك الدماء.