القلق

مسعود الحمداني –

Samawat2004@live.com –

نكتب ـ في لحظات شوق ـ قصائدنا..

وقبل أن ننتهي من كتاباتها..نمزقها..!!

وقد نكملها وننتشي بها في حينها، ولكن حين نعود إليها مرة أخرى..نقول: ما هذا الكلام الفارغ!!..ونرمي بها في أقرب سلّة مهملات..

ونتوجس خيفة في كل مرة نكتب فيها، ونخشى حين تطول بنا المسافة والمدة أن نفقد شاعريتنا..ونفقد معها إحساسنا بقيمة القصيدة..

حالة القلق هذه تمر بكل شاعر حقيقي، يشعر بقيمة ورسولية ما يكتب، وهذا القلق (الإيجابي) يلازمه في كل حالاته، فالشعر ليس كلاما مرصوصا، وثرثرة لا معنى لها، إنه نزق يشكّل وعي أمة أحيانا، وثقافتها، وقيمتها ككيان إنساني يستحق الحياة، والشعر فرس جامح، بريّ، ليس له صاحب، وصعب ترويضه، وكل من يخال عكس ذلك يقع في دائرة الركاكة والسطحية، والاجترار، وتهميش الشعر.

إنها الحالة التي يصل فيها حرص الشاعر على قصيدته إلى ذروته، إنها حالة (نرفانا) عالية، ومن خلالها يخرج دائما بالجديد، والعميق، والساحر.

سألتُ أحد الشعراء: ما هو جديدك؟!!

فأجاب: إنني لم اكتب شيئا يستحق القراءة منذ زمن!!..

والحقيقة أن هذا الشاعر ـ مثله مثل كثيرين ـ كتب كثيرا، ومزّق كثيرا، لأنه في كل مرة لا يقتنع بما يكتب، ولا يعترف بما يتولد عنه في لحظة توازن عادية، أو حاجة شعورية لحظوية، ويقع الشاعر أحيانا في مأزق المقارنة بين قصيدته الأخيرة وبين ما يكتبه حاليا، وإذا شعر أنه لم يقدّم جديدا، من ناحية النوعية، لم يجازف بالنشر، ولا حتى مواصلة المحاولة..لأنه يبحث عن اللحظات اللاواعية وغير العادية والمغايرة.

ويضع كل شاعر مبدع نصب عينيه متلقٍيا مفترضا، يجسّ نبضه، ويتحسس مشاعره، ويقيس ردة فعله، وهذا المتلّقي يعتبره متلقيا واعيا، وقادرا على انتقاده، وتوبيخه إن أخطأ، وهو متلقٍ لا يجامل، ولا يكذب، لذلك يبقى هاجس القلق قائما وواقعا يعيشه المبدع، وإن غاب عنه هذا الهاجس أصبح متخبطا، ومتذبذبا، وسريع الانفعال، وكان منتجه الإبداعي هزيلا وغير ناضج.

وفي المقابل قد يتحوّل هذا القلق المبدِع إلى (وسواس) يلاحق الشاعر ويجعله غير مقتنع بالتجربة برمّتها، وهنا يتحول ذلك المتلقي الداخلي المفترض إلى آلة رعب تفتك بإبداع الإنسان، وتحولّه إلى ركام من الوهم المسيطر على ذهنه، من الصعب الخلاص والفكاك منه، وهنا يتحوّل القلق الإيجابي إلى قلق سلبي مدمر، وغير بانٍ، ولكن يمكن السيطرة عليه من خلال ترويض ملكة الإبداع والطاقة الداخلية للشاعر وتوجيهها لتعميق العلاقة بينه والشعر، دون توتيرها، ودون تمزيق أوصالها.

إذن هناك نوعان من القلق، قلق وسواسي غير إبداعي، ولا يعترف حتى بتجربة الشاعر نفسه، والقلق الآخر هو القلق الذي يسيطر على الشاعر ويجعله أكثر انفعالا وقدرة على التعبير والابتكار، ويمدّه بطاقة الكتابة الأعمق والأكثر جدّة وحداثة وفكرة..لتظهر القصيدة في شكلها النهائي أجمل وأروع وأكثر إبداعا..

وهذا ما نسميه دائما.. (القلق الجميل)..


ولنا لقاء..