إيهاب الملاح –
هل فقد عالمنا عقله وانساقت جماعات منه إلى الجنون التام؟ كيف نستطيع أن نصدّ الإرهابيّين الذين يحتكرون الحقيقة ويقتلون باسم الله ونحصر المتشدّدين؟ أين ينفتح مجال للسماحة والاحترام .. للمحبّة والسلام.. في قريتنا العالميّة؟ ما القواعد التي خلّفها لنا حكماء وأنبياء الأديان السالفة منذ آلاف السنين في سبيلنا لكي نحيا معًا في قريتنا الشاملة بالمحبّة والاحترام؟ ما المبادئ والقواعد والأسس ومناهج السماحة والتصرّفات المثاليّة التي يمكنها أن تنشّط الاحترام تجاه الأديان الأخرى والأقليّات والشعوب الإثنيّة؟ وبماذا تبشّر الديانات العالميّة بالنسبة إلى السماحة تجاه من يعتنق تفكيرًا مختلفًا؟ بماذا يسعني أنا أن أساهم في سبيل عالم متناغم؟أسئلة كثيرة يثيرها كتاب «قانون التسامح»، الصادر حديثا عن دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة، للألماني الدكتور هوبرتس هفّمان، ويسعى إلى التعرف أو حتى تلمس ملامح إجابات لها من واقع الحفر في تاريخ المعرفة البشرية، ومسارات الديانات الكبرى، ويتوقف كثيرا لدى محطات تاريخية للإسلام الذي مورس باسمه وتمسحا بكتابه المقدس أبشع الجرائم الوحشية، من قتل وتدمير وحرق وإقصاء للآخر، وارتكاب فظائع في أنحاء متفرقة من العالم، في العراق وسوريا وأفغانستان، وغيرها من بقاع العالم التي شهدت عمليات إرهابية طيلة الفترة من 11 سبتمبر 2001 وحتى اللحظة الراهنة في 2015.
حرب وحشية؛ هذا هو الوصف الأدق لذلك الصراع القائم خلال العام المنصرم 2014 بين السنة والشيعة في كل من العراق وسوريا، حيث ينضوي السنة تحت لواء «الدولة الإسلامية» (داعش)، وهم يستهدفون التخلص من أصحاب المعتقدات الأخرى ويقتلون باسم الدين، ويجبرون المسيحيين على اعتناق الإسلام، ويحرقون كنائسهم، وكذلك يهدمون ويحرقون مساجد الشيعة. ويرصد الكتاب عددا كبيرا من الحوادث التي مورس فيها القتل باسم الله في بقاع متفرقة من العالم، ففي صيف عام 2014، أدى اضطهاد المتشددين الإسلاميين السنة وإرهابيي الدولة الإسلامية (داعش) للمسيحيين إلى إجبار قرابة مائة ألف رجل وامرأة وطفل إلى الهرب نجاةً بحياتهم في غضون أسابيع قليلة، ليكون هذا إعلاناً عن انتهاء 1600 عام من التسامح والتعايش السلمي في العراق، ولم يكن استسلام العسكريين الشيعة ليحميهم من مصير الإعدام الوحشي، هكذا يورد المؤلف بعضا مما تم رصده خلال العام.
أيضا وخلال أغسطس الماضي، ذكر الأب أثناسيوس توما داود، مطران الكنيسة الأرثوذكسية في سوريا أن استيلاء «داعش» على مدينة قراقوش العراقية، والتي تحتضن أكبر تجمع لمسيحيي العراق، قد مثل نقطة فاصلة في مصير المسيحيين ببلدهم. ووجه نداء قال فيه: «إنها الآن حرب تطهير عرقي وديني. يقتلون أهلنا باسم الرب، ويحثون الجميع على قتل المسيحيين ويبشرونهم بالجنة مقابل ذلك.. تلك هي رسالتهم. لقد أحرقوا الكنائس؛ وأحرقوا الكتب والمجلدات العتيقة. دمروا الصلبان وتماثيل مريم العذراء. وأقاموا في كنائسنا وحولوها إلى مساجد».
وفي 24 مارس من عام 2014 أيضا، توسّلت أمٌّ أحدَ المهاجمين الطالبان في فندق سيرنا في كابُل بأفغانستان قائلة: «أرجوك اقتلني أنا، لا أولادي». أحد عمّال الفندق شاهد مذهولاً، كيف قَتَل الإرهابيّ، الذي كان يقاتل في سبيل «إمارة إسلاميّة» بأفغانستان، طفلين وعمرهما من أربع إلى ست سنوات ورضيعًا، رميًا بالرصاص أوّلاً، ثمّ الأمّ والوالد سردار أحمد، بحسب ما روى مراسل مركز الإعلام فرانس برس. كانت الأسرة قبل ذلك بقليل قد احتفلت بعيد النّوروز الفارسيّ في الفندق الذي يميل إليه الأجانب. وكان دافع المهاجمين الثأر؛ لكون الضحايا أجانب.
وقبل ذلك بسنة في وسط مدينة لندن: بريطانيّان أصلهما من نيجيريا كانا قد ارتدّا من المسيحيّة إلى الإسلام، يقطعان رأس الجنديّ الشابّ لي ريغباي ويخطفان بذلك والد طفل في الثانية من عمره. كان عضوًا في الجيش البريطانيّ، وهذا كان سبب الحكم عليه بالإعدام. وقَبِل المجرمان أن يصوّرا والدم عالق بأيديهما. وكان تبريرهما لإراقة الدم الهمجيّة أنّ «جنودًا بريطانيّين يقتلون كلّ يوم مسلمين».
هذه عينة مما رصده المؤلف من أحداث القتل والإبادة والتطهير التي مارسها البعض باسم الله وإعلاء راية الدين، مما دعاه إلى السؤال: في أيّ عالم نعيش اليوم وفي أيّ عالم نريد أن نعيش غدًا مع أولادنا؟.. لكن هل يتحمل وزر هذه الجرائم دين اسمه «الإسلام» مشتق من السلم ويحيل معناه ودلالاته إلى المحبة والتسامح؟ هل يتحمل نبيه محمد وزر من يتحدثون باسمه ويحتكرون فهم تعاليمه ويمارسون أبشع الجرائم؟
يصف مؤلف الكتاب النبيّ محمّد بـ»داعية السماحة»، ويوضح أن ليس من موضوع يستقطب انتباه البشر ويحرّك مشاعرهم مثل أفعال القتل «باسم الله». صيتُ الإسلام، خصوصًا في العالم الغربيّ، سيئ، يعدّه الناس خاليًا من السماحة، متصلّبًا تجاه أفكار غربيّة وعدائيًّا تجاه المسيحيّين واليهود والنساء المتحرّرات. هل يهدّد الإسلام التعدّد وأسلوب حياة متسامحًا؟ تتنازع فرق مختلفة في العالم الإسلاميّ حول الحقّ بتفسير القرآن. من منها هي على حقّ؟
نصف الكتاب تقريبا يحلّل الجذور الذهبيّة للسماحة في القرآن الكريم والحديث الشريف الذي ينقل إلينا الأخبار المكتوبة عن حياة النبيّ محمّد، فمن يريد أن يفهم جيّدًا هذا الدين، عليه أن يرجع إلى نشأة الإسلام في القرنين السادس والسابع، وإلى النبيّ محمّد داعية التعليم الجديد وإلى تصرّفه تجاه المسيحيّين واليهود والنساء.
إنّ البحث الموسّع يجلب لكثيرين من القرّاء معارف مفاجئة، يقول الكتاب، فبخلاف الكثير من الأحكام المسبّقة لم يكن النبيّ محمّد رجل السيف، بل رجل الكلمة وداعية التناغم والتعايش السلمي. قبل 1400 سنة أراد أن يخلق للقبائل المتنازعة في مدينة مكّة وفي الجزيرة العربيّة بفضل عودتهم إلى الله الأوحد نظام سلام متناغم أفضل، (نظام الدين والحِلم).
كان النبيّ يريد أن يدفع عنهم القوى السلبيّة، قوى الثأر والعنف التي كانت سائدة في الجاهليّة قبل بعثة محمّد. لم يكن مقاتلاً مهاجمًا كالمتشدّدين المعاصرين، بل كان صانع سلام، واضطُرّ بعد هجرته من مكّة وبسبب تعدّيات أعدائه على المدينة إلى استخدام السيف وإلى الدفاع عن نفسه. أمّا القواعد التي أقرّها للجهاد في سبيل الله، فترد في القسم الأوّل، الفصل الخامس.
في هذا الكتاب يوجه مؤلفه نداء إلى القارئ وقبل كلّ شيء إلى الأكثريّة الصامتة، يدعو فيه إلى تعزيزٍ أوسع للسماحة والاحترام تجاه أديان وأقليّات إثنيّة وأعراق مختلفة، وذلك بمبادرات صغيرة وشجاعة نبيلة، من باب التحريض على توسيع المشاعر القلبيّة والإحساس الإنسانيّ ومحبّة الناس في قريتنا العالميّة، وفي الوقت عينه يرفض في التحليل النهائي لموضوعات الكتاب كلّ أنواع التطرّف الدينيّ أو السياسيّ. يقول المؤلف «كلّ واحد منّا يمكنه أن يضيف قطعة في تركيبة السماحة. في جميع أجزاء الأرض والثقافات والاتّجاهات الدينيّة، نجد أمثالاً صغيرة وكبيرة ممتازة، تدلّنا كيف يمكننا أن نحسّن عيشنا المشترك. وقد بدأتُ في هذا الكتاب أجمع المئة الأولى منها وأعرضها عليكم، هي الأمثال المثاليّة للسماحة. كلّها تبيّن أنّ السماحة تمكن ممارستها. فبفضل عدّة آلاف نشاط على الصعيد المحلّي والوطنيّ والدّولي نستطيع أن نعزّز معًا المحبّة والسلام ونقيم سدًّا أمام الشرّ. فلنَقتَدِ بهذه الـمُثُل الصالحة».
في القسم الأوّل من الكتاب يحلّل المؤلف ثمار التسامح الذهبيّة في الأديان العالميّة الكبيرة، خصوصًا في الإسلام. فيعرض الكتاب تعاليم القرآن والنبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) تجاه أتباع الأديان الأخرى، راصدا ما أسماه «القطع العشر» للسماحة في الإسلام. إنّ هذا الدين يختبره الكثيرون اليوم كدعوة إلى التعسّف، لذلك تمّ الاهتمام به اهتمامًا أوسع من الأديان الأخرى، بحسب ما يقول مؤلف الكتاب في مقدمته الكاشفة.
يقول المؤلف «هذا الكتاب نداءٌ موجّه إلى القارئ وقبل كلّ شيء إلى الأكثريّة الصامتة، يدعو إلى تعزيزٍ أوسع للسماحة والاحترام تجاه أديان وأقليّات إثنيّة وأعراق مختلفة. وذلك بمبادرات صغيرة وشجاعة نبيلة. هذا تحريض على توسيع المشاعر القلبيّة والإحساس الإنسانيّ ومحبّة الناس في قريتنا العالميّة. وفي الوقت عينه يرفض التحليل كلّ أنواع التطرّف الدينيّ أو السياسيّ».
ويؤكد مؤلفه أن «كلّ واحد منّا يمكنه أن يضيف قطعة في تركيبة السماحة. في جميع أجزاء الأرض والثقافات والاتّجاهات الدينيّة، نجد أمثالاً صغيرة وكبيرة ممتازة، تدلّنا كيف يمكننا أن نحسّن عيشنا المشترك». وانطلاقا من هذه الفرضية الرئيسية في طرح الكتاب ومادته، قام المؤلف بحصر وجمع الأمثلة الدالة، التي أسماها «الأمثال المثالية للسماحة»، وكلّها تبيّن أنّ السماحة تمكن ممارستها. فبفضل عدّة آلاف نشاط على الصعيد المحلّي والوطنيّ والدّولي نستطيع أن نعزّز معًا المحبّة والسلام ونقيم سدًّا أمام الشرّ. فلنَقتَدِ بهذه الـمُثُل الصالحة لإرساء قانون.. قانون التسامح.